صخب العزلة

00:30 صباحا
قراءة دقيقتين

هل يمكن جمع النقيضين: الصخب والعزلة في سلة أو خانة واحدة؟ يبدو ذلك مستحيلاً، فالناس يختارون، ولو بصورة مؤقتة، الهروب من الصخب، والمقصود هنا صخب من حولهم من بشر تحديداً، إلى العزلة، كي يخلدوا إلى أنفسهم لبعض الوقت، ويستمتعوا بممارسة ما يطيب لهم من أعمال وهوايات، وينعموا بقدرٍ من الهدوء والسكينة، لذا يبدو القول ب «صخب العزلة» كجمع مستحيل بين الماء والنار مثلاً.
ومع ذلك، فإنّ للعزلة صخباً من نوع آخر. إنه صخب آتٍ من داخل النفس، ولا يجد له سبيلاً لأن يفصح عن نفسه، حين يكون المرء في «معمعة» الصخب الخارجي: صخب الآخرين وصخب الحياة، فما تكاد نفس الإنسان تشعر بأنها نأت عن هذا الصخب الخارجي، حتى تفصح عن نفسها، حين يجد صاحبها نفسه أمام أسئلة حائرة، ربما ما كان سينتبه لها لولا تلك الفسحة من العزلة.
هذا بشكل عام، لكن هناك عزلة تخصّ أهل الإبداع من كتّاب وفنانين، الذين يتعذّر على الكثير منهم، وربما كلهم أن ينجزوا ما في أذهانهم من مشاريع، إن بقوا في دائرة صخب الخارج، قامعين صخب الداخل، الآتي من نفوسهم.
في كتابٍ عن «تقنيات الكتابة»، أعدّه وترجمه رعد عبدالجليل جواد، وهو مجموعة شهادات لعدد من الكتاب الأجانب حول تجاربهم في الكتابة، نقرأ ورقة لبيتر ليزشاك، وهو، كما يُعرّفه المترجم: كاتب وصحفي يعتبر كتابه «رسائل من الجانب الآخر للبحيرة» مرجعاً في فن القص، وعنوان هذه الورقة:«اتباع الخطوات الخمس الإبداعية»، وسنوجز هنا ما قاله عن إحدى هذه الخطوات التي تتصل بموضوعنا، ألا وهي العزلة.
يرى الكاتب أنه بالوسع استرجاع ما نختزنه من معلومات في الذهن عن طريق العزلة بالذات، موضحاً أن العزلة التي يقصدها ليست العيش في كوخ في غابة، وإنما هي باختصار تحديد مكان ومواعيد ثابتة للكتابة.
يجب أن يكون المكان مناسباً، ويتوفر فيه ما يلزم الكاتب من أدوات ومراجع، وأن يكون معزولاً بما فيه الكفاية، ويكون بعيداً عن أي صخب أو تدخلات ليوفر للكاتب الحرية.
هل تعني العزلة الانفصال عن الواقع؟ هذا ما يقطع فيه ليزشاك بالنفي، داعياً إلى أن يكون الكاتب وثيق الارتباط بمجتمعه وبما يدور فيه، ولكنه يحتاج العزلة كي تطفو الأفكار المخزنة في جعبته، التي قد تكون خلدت إلى سِنة من نوم، فتلقي به في صخبها، لتمكّنه من بلوغ الغاية التي حددها كاتب معروف قال مرة: «إن الكتاب الجيد ليس هو ما نقرأه، ولكنه الذي يقرأنا».
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"