التكنولوجيا تخطفنا

00:22 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

عندما انتقد جورج أورويل الأنظمة الشمولية في روايته اللافتة «1984»، بوصفها تراقب الإنسان وتتبعه حتى في حياته الخاصة من أجل الهيمنة والسيطرة على عقله، ومن ثم قراراته وخياراته، لم يكن يدرك أن الأنظمة الأخرى: التحررية، الديمقراطية، الليبرالية.. ستقوم بالفعل نفسه، ولكن عبر قفازات من حرير، من خلال منظومة نفسية وفكرية تدفع الفرد إلى عرض فضائه الخاص على الملأ طواعية، وهو يبتسم ويشعر بالسعادة.

إن تركيز نقاد الشبكة العنكبوتية و«جوجل» ومواقع التواصل على أن هذه الأدوات تتوافر لديها مليارات البيانات عن البشر، بما يمكنها من توظيفها اقتصادياً أو حتى سياسياً، يتجاهل مشكلة أعمق، فوسائل التكنولوجيا الحديثة لم تحصل على هذه البيانات في غفلة منا، أو من خلال مراقبتنا، كما في رواية أورويل. صحيح أن بعضنا اشترك على مضض في تلك المواقع وقدم بياناته حتى لا يعاني العزلة في ذلك العالم المفتوح، ولكن معظمنا لم تكن لديه أي مشكلة في أن تكون توجهاته السياسة ووضعه المالي وتفضيلاته القرائية والفنية وحتى حياته، معروضة في الفضاء العام، يتداولها الجميع.

في ذلك الفضاء، يعرف البشر كل شيء عن بعضهم بعضاً، ماذا يقرأون، وماذا يرتدون، وكيف يقضون أوقات فراغهم، وأين يتسوقون، إضافة إلى آرائهم المختلفة في الحياة، وليس هناك ما يمكن أن يسمى «خصوصية»، وباتت الصور التي نحتفظ بها لأنفسنا غير متاحة إلا للمقربين، والبيوت التي كانت شبه مقدسة، أثراً من الماضي. 

وهناك رغبة محمومة في مشاركة أكثر اللحظات خصوصية وعرضها في الفضاء العام؛ بل تصادفنا بعض الأحداث التي نتوقف أمامها باستغراب، فهذا يعلن عن إصابته بمرض خطر، وذاك يسجل رسالة قبل إقدامه على الانتحار، وانتهى زمن كان الأدب يسجل فيه أحاسيس يستبطن فيها الإنسان ما يمر به من مشاعر شديدة التفرد والخصوصية عندما يصيبه مرض ما، أو حين يستولي عليه اليأس ويختار أن يغادر العالم.

لم تعد أزمة التكنولوجيا الحديثة سياسية تقود العقل نحو خيارات ما، أو اقتصادية توفر لأصحاب العلامات التجارية بيانات المستهلكين، أو معرفية تنحدر بالثقافة والذوق العام، ولكنها وصلت إلى الروح؛ إلى تركيبتنا الإنسانية نفسها. إن هذا الفضاء العام المنفلت من عقاله الذي يسحر معظم البشر الآن، لا يثير أسئلة تتعلق بحق الإنسان في الخصوصية وحسب، ولكن الأخطر يتمثل في تشكيل إنسان جديد تختفي لديه تلك الحدود الفاصلة بين «الأنا» و«الآخر»؛ الذات والمجموع، البيت والشارع، القريب والغريب، العام والخاص.. لينخرط البشر في مجتمع «الشو»، حيث يلهث الجميع وراء المشاركة في العرض ليس بهدف الربح أو تحقيق شهرة أو توصيل رسالة ما وحسب، ولكن من أجل متعة المشاركة، وتحولت الوسيلة إلى غاية، والتكنولوجيا إلى أيديولوجيا للمرة الأولى في التاريخ، وهل من أيديولوجيا أخطر من تحديق الإنسان في هاتفه الجوال قبل النوم وعند الاستيقاظ في الصباح؟.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"