الحرب على أبواب أوروبا

00:46 صباحا
قراءة 3 دقائق

ساد اعتقاد راسخ لعقود بأن الحرب غير مسموحة في أوروبا، وأن الحرب العالمية الثانية هي آخر الحروب بين الأوروبيين، وأن الأمم الأوروبية تعلّمت من تجاربها المريرة مع الحروب، وأن ما يمكن إنجازه عبر الحرب يمكن إنجازه عبر السلام وأدواته المتعددة، من مثل إدارة المصالح والتكامل الاقتصادي والتفاوض، لكن في حقيقة الأمر، بقيت روسيا خارج هذه المعادلة، وقد ظنّ الأوروبيون أن سقوط الاتحاد السوفييتي، وانهياره في عام 1991، سيجعل من روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي السابق في موقع ضعف، وسيدفع بها لتكون جزءاً من أوروبا، ومن اقتصادها وقيمها ومعادلاتها السياسية، لكن ما إن انقضى عقد التسعينات من القرن الماضي، حتى عادت روسيا إلى برمجة أهدافها البعيدة، بحيث تعود مرة أخرى قوة عالمية على المسرح الدولي، ولاعباً أساسياً في تقرير مصير أوروبا والعالم.
 يتمركز الآن عشرات الآلاف من الجنود الروس مع عتاد ثقيل ومتطوّر على الحدود الأوكرانية، في إشارة قوية ومباشرة توجهها قيادة الكرملين إلى أوروبا، ومن ورائها «حلف الناتو»، إلى أنها جاهزة لمواجهة عسكرية، وخلط الأوراق في القارة، واستعادة زمن الحرب المباشرة، وعدم الاكتفاء بالحرب السيبرانية، أو حرب الطاقة، في وقت هو من أصعب الأوقات على أوروبا والعالم، بعد أن ضرب فيروس كورونا كل أنحاء العالم، وأوقف سلاسل الإمداد، ورفع مستويات التضخّم العالمي، وأقفل الحدود بين الدول، من دون أن يكون هناك ضوء واضح في آخر النفق، فالآمال التي أوجدتها اللقاحات بدأت تتبخر مع عودة الموجة الرابعة.
 الولايات المتحدة، تدرك أن التصعيد الروسي هو تصعيد جدّي، لكنها تعتقد أن هذا التصعيد قد لا يصل إلى مستوى التدخل العسكري، وفي الوقت نفسه، ترى نفسها المعنية الأولى بالرسالة العسكرية التي توجهها روسيا لأوروبا، وقد صرّح الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بأن بلاده لن ترسل أية قوات لمنع التدخل العسكري في أوكرانيا، فهي ليست عضواً في «حلف الناتو»، لكنه في القمة التي جمعته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وجّه انتقادات شديدة لموسكو، معتبراً أنه أوصل «رسالة قوية» لها، حيث هدّد بفرض عقوبات اقتصادية مؤثرة في قطاعات حيوية في الاقتصاد الروسي، كما أن موسكو أعلنت أنها ليست في وارد القيام باجتياح عسكري لأوكرانيا، لكن هذا الجدل والتوتّر بين واشنطن وموسكو، وبهذه الحدّة، يعكس فعلياً أجواء الحرب، بغض النظر عن شكلها.
 تجد موسكو نفسها خاسرة عبر العمل الدبلوماسي حيال اندماج أوكرانيا المتزايد في المنظومة الأوروبية والأطلسية، فالمحاولات الدبلوماسية خلال السنوات السابقة لم تفضِ إلى أية نتائج لمصلحة موسكو، فقد انخرطت أوكرانيا بشكل متزايد في التنسيق الاقتصادي والتجاري والعسكري والأمني مع الغرب، كما أن العقوبات الاقتصادية والمالية التي فرضتها أوروبا على روسيا لم تكن مؤثرة، بل إن الأوضاع في أسواق الطاقة الآن، وارتفاع أسعار النفط والغاز، ونقص الإمدادات، تجعل أوروبا في حاجة أكبر لموسكو، وبالتالي فإن رفع منسوب التهديد، من وجهة نظر موسكو، هو الآن في مكانه الصحيح، لجني تنازلات أوروبية، حيال عدد من الملفات الرئيسية.
 وفي السنوات الثلاث الماضية، حصل الجيش الأوكراني على أسلحة متطورة من الولايات المتحدة، ما يعني من وجهة نظر الأمن القومي الروسي تهديداً لموسكو، وتقليصاً لحجم نفوذها الجيوسياسي، ووصول «حلف الناتو» إلى حدودها، حتى إن لم تكن أوكرانيا عضواً رسمياً في الحلف، فالحكومة الأوكرانية تنسّق بشكل كبير مع واشنطن، كما أن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، تراجع عن وعوده بإيجاد حلّ سياسي يرضي المصالح الروسية، وهو ما رأت فيه موسكو حالة خداع، وكسباً للوقت، من أجل تمتين علاقات كييف بأوروبا وأمريكا، خصوصاً أن كييف مضت خطوات كبيرة في تمتين علاقاتها التجارية مع أوروبا، عبر تفعيل الخطوات العملية التنفيذية لاتفاق الشراكة الذي كانت وقّعته مع الاتحاد الأوروبي في عام 2014.
 الخيارات والسيناريوهات تبدو أمام موسكو محدودة جداً، فالمسار الدبلوماسي أثبت فشله، وتدخّلها العسكري في القرم لم يمنحها نقاط القوة التي كانت ترتجيها في التفاوض مع أوروبا، لكن في الوقت نفسه لم يجابه عسكرياً من قبل الغرب، وبالتالي، فإن وضع سيناريو التدخل العسكري الواسع في أوكرانيا قد يدفع الأوروبيين إلى إعادة النظر في حساباتهم، لكن هذه الرؤية قد لا تكون صائبة، فالمواقف الأوروبية والأمريكيةن حتى اللحظة، تبدو أكثر تشدداً من أي وقت مضى، ما قد يجعل من سيناريو الحرب هو الأكثر ترجيحاً، وليس مجرد ورقة ضغط.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"