عالم ما بعد الأتمتة

21:46 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد *

في البدء كانت الأتمتة، كأولى ثمار الابتكار في عصر الصناعة، وما بعده. وبموجبها تم استبدال العمل الآلي بالعمل البشري، والتحول إلى ما سُمي بالصناعة الآلية أو الأتمتة الصناعية. واليوم، فإن عصراً جديداً أكثر أتمتة بكثير من سابقه، هو ما صار يسمى بعصر «أمة الابتكار»، سِمته الأساسية، الروبوتات والسيارات ذاتية القيادة والطابعات ثلاثية الأبعاد، وغيرها من منتجات التكنولوجيا التي ستغير الحياة بسرعة مذهلة، كما لم نعهدها من قبل. والأخطر، أن ذلك سيتم بأثمان باهظة تتضاءل معها تلك التي دفعت عمّال مصانع النسيج الإنجليز في القرن التاسع عشر، لتدمير آلات النسيج احتجاجاً على أصحاب المصانع في نوتنجهام الذين استجلبوا الآلات لتحل محلهم، والتي انتهت بقيام أصحاب المصانع والمطاحن بإطلاق النار على المحتجين وقمع حركتهم التي استمرت زهاء 6 سنوات (من 1811 إلى 1816)، بالقوة العسكرية.
حتى كبار أقطاب الأعمال، أمثال إيلون ماسك، وبيل جيتس، لم يخفوا قلقهم من المخاطر المحتملة لثورة الذكاء الاصطناعي. والحال إن معظم الناس لا يخشون الذكاء الاصطناعي لأنهم ببساطة ليسوا على علم بعد بما ينطوي عليه من تداعيات، لعل أبرزها وأخطرها أتمتة الوظائف. فالذكاء الاصطناعي (Al)، بما هو في تعريفه «قدرة الكمبيوتر على تقليد السلوك البشري الذكي»، يحيل في الواقع كل شيء من مساعد «أبل» الافتراضي «سيري» الذي يعد جزءاً من أنظمة تشغيل iOS وiPadOS وwatchOS وmacOS وtvOS التابعة لشركة «أبل»؛ و«ألكسا» من «أمازون» (أيضاً مساعد افتراضي بتقنية الذكاء الاصطناعي تم تطويره بواسطة «أمازون»، وتم استخدامه لأول مرة في مكبرات الصوت الذكية «إيكو»، ومكبرات الصوت «إيكو دوت»، و«إيكو ستوديو»، و«أمازون توب»، التي طورتها «أمازون»)؛ إلى تقنية التعرف إلى الوجه، وإلى خوارزميات البحث من «جوجل».
وقد خلُص بحث أجرته شركة «ديلويت» البريطانية وجمعية محترفي الموارد البشرية، الكندية، إلى أن ما بين 35% و42% من الوظائف ستتأثر بأتمتة الوظائف.
وهذه التغيرات لن تحدث في المستقبل، بل إنها تحدث الآن. كما أن تقريراً آخر صادراً عن معهد بروكفيلد للابتكار، الكندي، أشار إلى أن البلدات والمدن الصغيرة التي تعتمد على التصنيع والتعدين والزراعة ستكون من بين المناطق الأكثر تضرراً من الأتمتة، تليها المدن الكبيرة. وستكون المدن الكبرى، الأقل تضرراً، حيث تستوعب الهيئات والمؤسسات والدوائر الحكومية فيها، أعداداً كبيرة من العاملين في مجالات التعليم والرعاية الصحية والأشغال والمرافق والخدمات العامة.
وهكذا فإن أرباب العمل، في سعيهم الدؤوب لخفض كلفة الإنتاج، وزيادة إنتاجية العمل (عدد الوحدات المنتَجة في وحدة زمنية واحدة، ساعة على سبيل المثال)، قد تسببوا بتقليص الطلب على قوة العمل، فضلاً عن تقليص أعدادها. ووفقاً لبيانات هيئة الإحصاء الكندية، فقد انخفض عدد الوظائف اللازمة لتوليد مليون دولار في أعمال التصنيع إلى النصف من عام 1980 إلى عام 2013.
ولذا، فمن المحتم أن يتأثر عدد متزايد من الوظائف بوطأة هذا المستجد. فوفقاً لدراسة أجرتها جامعة أكسفورد في عام 2013، فإن 47% من جميع الوظائف في الولايات المتحدة ستختفي في غضون عقدين من الزمن، لأنه يمكن القيام بها بواسطة الروبوتات. وفي ضوء الإيقاع السريع للتقدم التقني، فإنه لا يمكن لأحد ضمان عدم استبداله بالآلة قريباً. وكما توقع الاتحاد الدولي للروبوتات (IFR) مؤخراً، تعد النمسا واحدة من رواد العالم في مجال كثافة الروبوتات. حيث يتم حالياً توظيف 144 روبوتاً بواسطة 10000 شخص، فيما تحل سويسرا في المركز الرابع عشر في الترتيب العالمي. ومنذ عام 2010، تتسارع في كوريا أعمال إحلال الروبوتات في الأعمال، ووصل عددها اليوم إلى 631 روبوتاً، تليها سنغافورة ب 488، وألمانيا ب 309.
بعض المؤسسات التكنوقراطية، تحاول التخفيف من أخطار هذا الشبح، مثل شركة «ديلويت» للتدقيق المحاسبي، التي حاولت في دراسة حالة (Case study) طمأنة العاملين بالقول إن فرص العمل ستنمو، لكن من يقوم بالعمل سيتغير، مع ترك الأنشطة القائمة على الحكم للبشر، فيما سيُخصص المزيد من المهام المتكررة للذكاء الاصطناعي. بينما ذهب بعضها الآخر للقول إن الأتمتة ستحرر الإنسان من المهام الرتيبة، أو المملة، أو حتى الخطرة. بل إن بعضها ذهب لحد القول إن الأتمتة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي قد تجعل الإنسان أكثر سعادة، من خلال توفير الوقت، وإن مكان العمل المستقبلي المدعوم بالذكاء الاصطناعي، قد لا يكون في نهاية المطاف، سيئاً للغاية.
* كاتب بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"