المصالح والعقلانية في العلاقات الدولية

00:21 صباحا
قراءة 3 دقائق

السؤال الذي سيبقى راهناً، بخصوص الحرب في أوكرانيا، يرتبط جوهرياً بالمصالح من جهة، والعقلانية من جهة ثانية، وهذا السؤال هو: هل فعلاً لم يكن بالإمكان تجنّب الحرب؟.
  يدرك القادة السياسيون والعسكريون أن الحرب ليست نزهة، وليست خالية من المفاجآت، أو انقلاب الحسابات الأولى لحظة دخول الحرب إلى عكسها، ومع ذلك، فإن دخول الحرب، من قبل أي طرف، أو مبادرته إلى شنّ الحرب، تعني اعتقاده الكبير بأنه سينتصر، والحال في حالة أوكرانيا، أن الطرفين الروسي والغربي (الأمريكي والأوروبي) يعتقد كلّ منهما أنه سينتصر، وبالتالي فإن دخول الحرب من شأنه أن يحقّق مصالح استراتيجية، انعدمت إمكانات تحقّقها بالسياسة.
  من وجهة نظر عقلانية خالصة، كان المجتمع الدولي يستبعد، وبشكل شبه حتمي، قيام حرب بينية في أوروبا، وضمناً فإن الأوروبيين أنفسهم، كانت لديهم قناعة بأن الحروب في أوروبا قد أصبحت من الماضي، ولوجهة النظر هذه العديد من المعايير المعتبرة والوجيهة، فأوروبا هي أكثر القارات التي عرفت معنى الدمار والآلام والكوارث التي تأتي بها الحروب، فقد خاض الأوروبيون حربين عالميتين، في القرن العشرين، بفاصل زمني لا يتجاوز الثلاثة عقود، ودفعت أوروبا عشرات الملايين من الضحايا، وتدمّرت فيها مدن بأكملها، ولجأ الكثير منهم إلى الخارج، وأهدرت الكثير مما كانت قد أنجزته على مستوى البنى التحتية.
  على مستوى المصالح، فإن أوروبا تمكّنت في الفترة التي تلت سقوط الاتحاد السوفييتي، عام 1991، من بناء سياسات دولية قائمة على التوازن من أجل تحقيق سلّة مصالحها المتنوعة، في محاولة لإعاقة ظهور حرب باردة جديدة، وعلى الرغم من تمايز أنظمتها السياسية عن سياسات دول مثل الصين وروسيا والخليج وإفريقيا، إلا أنها حيّدت إلى حدّ كبير تأثيرات هذا التمايز السياسي، من أجل بناء علاقات تكاملية وتبادلية مع الأسواق في مناطق مختلفة من العالم.
  ما أحدثته الحرب الراهنة على مستوى العلاقات الدولية هو خلخلة اليقين بأن النظام الدولي القائم، في مستوييه العقلاني والمصلحي، ما زال فعّالاً، خصوصاً أن بعض أطراف المعركة هم أعضاء دائمون في مجلس الأمن، وتفترض هذه المكانة أنهم يتحمّلون مسؤولية الحفاظ على الأمن والسلم العالميين، لكن الواقع الفعلي يؤكد أنهم، على الرغم من مكانتهم ومسؤوليتهم، لم يتمكنوا من جعل الحرب خياراً مستبعداً، ولم يمنحوا المسار الدبلوماسي ما يستحقه من اهتمام وجدّية.
  الوقائع التي تلت الحرب، تعدّ تحوّلاً عن مسارات سابقة في النظام الدولي، حيث تظهر سياسات بعض الدول الرئيسية ما يشبه الانقلاب على استراتيجياتها، والمثال الأبرز ربما عودة ألمانيا للاهتمام بتطوير قدراتها العسكرية، ورصدها أموالاً كبيرة من أجل إعادة بناء الصناعات العسكرية، فقد تبنّت الحكومة الألمانية تخصيص 100 مليار يورو لصندوق خاص بقواتها المسلحة، وبالتالي رفع إنفاقها الدفاعي إلى حوالي 2% من ناتجها القومي السنوي.
  النظام الدولي، يشهد عودة قوية إلى العسكرة، وإلى كلّ ما يتضمنه هذا المجال من سياقات، خصوصاً زيادة الإنفاق على التسليح، وإحياء مكانة الصناعات العسكرية، بعد أن تراجعت لبعض الوقت في النظام العولمي، لمصلحة قطاعات أخرى، كما أن نمو هذا الاتجاه يحمل معه فرصة أكيدة لزيادة دور ومكانة القوّة العسكرية في العلاقات الدولية، كما سيقلّص مساحات الانفتاح العولمي بين الشعوب والحكومات والقطاع الخاص، ما يعني بالضرورة إحداث خلل كبير في سوق العمل الدولي، وسلاسل الإمداد، وقد بدأت نتائج هذا الخلل تظهر فعلياً في أكثر من مظهر من مظاهر السوق.
  لقد أسهم النظام العولمي، خلال العقود الماضية، في فتح بوابات كانت مغلقة في عهد الحرب الباردة، انطلاقاً من تشكيل مقاربات جديدة للمفاهيم، فعلى سبيل المثال لا الحصر، أسهمت التجارة الإلكترونية في بناء منظومات عمل عابرة للقارات والسياسات، لكن ما نشهده الآن على صعيد العقوبات الاقتصادية، والعزل المالي لروسيا، بغضّ النظر عن تأثيره في الحرب من الناحية العسكرية، فهو يقدّم مثلاً واضحاً عن إمكانية تهديد التجارة الإلكترونية مع هذا البلد أو ذاك، ويعيد إخضاع المنتجات العولمية لهيمنة القرارات الحكومية.
  إن أساس النظام الدولي المستقر يكمن في الاتفاق بين الدول الكبرى على تحقيق المصالح بطرق سلمية، وذهاب القوى الفاعلة في هذا النظام إلى المواجهة، يعني عدم قدرتها على التوافق، وانقلابها على العقلانية في العلاقات الدولية، وهو ما يحصل الآن، وسيترك آثاره طويلاً.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"