المعرفة شأن الجميع

00:51 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

تحاول المؤرخة البريطانية فيوليت مولر في كتابها «خريطة المعرفة»، أن تكتب تاريخاً عالمياً للمعرفة يغطي مساحة ألف عام منذ 500 ق.م إلى 1500 ب.م، يستند إلى المدن الشهيرة التي كانت منتجة للعلوم في تلك الألفية. تسرد كيف تضمنت هذه المدن مدارس ومعامل أثّرت بقوة في نظم التعليم والثقافة، حتى تحولت تلك المدن إلى قبلة للباحثين عن المعرفة.

ما يهم القارئ العربي هنا، أن أربع مدن من المدن السبع الكبرى في تأريخ مولر تنتمي إلى المنطقة العربية جغرافياً أو حضارياً: الإسكندرية القديمة، وبغداد زمن العباسيين، وقرطبة وطليطلة في فترة الحكم العربي (الأندلس)، أما المدن الثلاث الأخرى فكانت على تخوم حضارتنا وتأثرت بها بقوة، وهي: ساليرنو، باليرمو وفينسيا.

لم تكن منطقتنا خلواً يوماً من حضارة أو صناعة معرفية ثقيلة، منذ ما قبل الإسلام والحضارة العربية وحتى ما قبل ألفية مولر؛ أي أننا كنا نتميز ليس بإنتاج المعرفة وحسب، ولكن بحضارة تواصلت حلقاتها، ولم تعرف في تاريخها القديم والوسيط ذلك السبات الذي تعيشه منذ عدة قرون، ولم نكن نعيش على إنتاج الآخرين من المعارف، كما نحن اليوم.

إن العودة للتفاخر بالماضي لن تحل مشكلة تراجعنا المعرفي الحاد والملحوظ، أما فتح باب النقاش حول أسباب هذا التراجع فلن يكون أكثر من تكرار لعشرات الأطروحات التي استهلكها الجميع خلال القرنين الماضيين، وحتى لو قدم أحدهم أطروحة تنظيرية جديدة فلن تسهم في الحل، بقدر ما ستعمل على تأبيد التراجع من خلال إلقاء الضوء على بؤر جديدة معيقة للنهوض مما يعقّد الأزمة أكثر، وتلك مسألة ناتجة ربما عن عقلية شبه جمعية تشكّلت نتيجة لعوامل كثيرة تبحث في سؤال: لماذا تراجعنا؟ ولا تهتم بسؤال كيف نتقدم؟

ربما تقدم إجابات عن السؤال الأخير، ولكنها إجابات رهينة بإزالة المعيقات التي يرصدها السؤال الأول؛ أي أنها تدور في الأزمة نفسها، ولا تستطيع ابتكار أي مغامرة جديدة تقطع فيها نهائياً مع أسباب التراجع.

 الملاحظة الأهم في كل ذلك الجدال، أن مسألة المعرفة لم تعد متعلقة برؤية مفكر فرد، وتوقفت عن أن تكون شأناً نخبوياً يُطرح ويناقش في المؤتمرات والندوات المتخصصة، المعرفة باتت نتاج المجتمع بأكمله: بشرائحه وقواه كافة، تبدأ منذ مراحل التعليم الأولى، وتسهم فيها المؤسسات المعنية بالثقافة بمعناها الأوسع: دور النشر والجامعات ووسائل الإعلام.. كل هذه الجهات أصبحت تقدم منتجاً ليس بالضرورة يتعلق بعلوم الكيمياء والفيزياء، ولكن ربما فكرة أو ابتكار بسيط، والأهم من ذلك أن تلك الفكرة تتجلى لاحقاً في مظاهر الثقافة المختلفة. ولنعد قراءة أفلام الخيال العلمي الأمريكية، هي أفلام ليست للمتعة والشباك وحسب، كما يعتقد معظمنا، ولكنها تعكس أفكاراً تدرس أولاً في مراحل التعليم المختلفة، وتنشر ثانياً في كتب ورايات شعبية، ويروج لها ثالثاً في معارض خاصة، وصولاً إلى السينما، وهو ما لا يمكن العثور على شبيه له في ثقافتنا التي لم تدرك بعدُ أن المعرفة شأن جماعي وليس فردياً أو نخبوياً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"