عادي
ملحمة إبداعية مبهرة في 3 ساعات

«كيرة والجن» تذكرة سفر إلى التاريخ المشرّف

23:36 مساء
قراءة 5 دقائق

مارلين سلوم
حين تقرر السينما قطع تذكرة سفر لك عبر الزمن، لتسحبك من مقعدك في الصالة فتجد نفسك في قلب الماضي العريق والتاريخ المشرّف والبطولات الوطنية الرائعة، ما عليك إلا الاستسلام والتحليق عالياً معها بكل حواسك ومشاعرك، فتعيش ساعات لا تنسى تتمنى معها ألا يمر الوقت وألّا تنتهي المتعة ولا تغادر هذه الحقبة وتلك الأحداث وهؤلاء الأبطال الذين تأبى أن تتركهم هناك بعد انتهاء العرض بل تحملهم معك إلى بيتك. تراهم أمامك باستمرار، تستعيد شريط الحكاية من أول لحظة وحتى الختام، تتحدث عنهم مع كل المحيطين بك ومعارفك، تبحث عنهم على «جوجل» سواء الأبطال الحقيقيون الراحلون أم الأبطال الذين جسدوهم على الشاشة، وترغب بالعودة مجدداً إلى الصالة لتستعيد متعة السفر الفني الجميل. هذا ما يفعله بنا فيلم «كيرة والجن» المعروض في الصالات، والذي يفوتك الكثير لو لم تشاهده، وهذه النوعية من الأفلام يستحسن مشاهدتها في السينما لا على التلفزيون أو الإنترنت، لأن الصورة والإخراج والصوت عوامل أساسية فيها ولا تبرز قيمة جمالها إلا في الشاشات والتجهيزات الصوتية الضخمة.

لماذا نقول «الفن الحقيقي»؟ فهل هناك فن مزيف مثلاً؟ المقصود بالحقيقي هو الفن المنبثق بفكرته وقصته وأسباب صناعته من رسالة واضحة، الهدف منها قول شيء مهم للجمهور، واحترام عقل وذوق المتلقي، واحترام الفن بكل شروطه وقوانينه وقواعده وجذوره وتاريخ الصناعة السينمائية والتفكير بالمستقبل والتطور. والفنان الحقيقي هو المشغول بترك بصمة مميزة ترفع من قيمة اسمه وتاريخه ومن قيمة الفن والجمهور أيضاً. صناع الفن الحقيقي يعدون اليوم على أصابع اليدين، لا يفكرون بالإيرادات ولا «النمبر وان» ولا ركوب أي موجة سائدة في السينما الحالية، تشغلهم أمور أكبر وأعمق، مثل القصة والإتقان في الكتابة والسيناريو والحوار والإخراج والكادر والكاميرا الموسيقى والديكور والملابس والماكياج والصوت والصورة والاكسسوارات والكومبارس وكل فريق التمثيل. كل هذه الأشياء انشغل بها صناع الفيلم المصري «كيرة والجن»، كل هذه التفاصيل أتقنها المخرج العبقري مروان حامد، ليثبت في كل مرة يعود بها من غيابه الطويل عن الشاشة أنه مخرج لا يشبه إلا نفسه، لا ينافس إلا نفسه، يحلق من علو إلى ما هو أعلى، حرفي في صناعة فيلمه كأنه خياط يطرز القماش بأنامله السحرية فيرسم أجمل لوحة تزيد من جمال القصة التي التقى في مستوى الرقي والإبداع فيها مع الكاتب أحمد مراد. هذا الكاتب الذي يجيد تطويع الأحداث التاريخية ليطعمها بالخيال القادر على تلميع أحداثها ودفع الجمهور إلى التعلق بكل شخصياتها بلا استثناء، فيحب الأخيار ويكره الأشرار من صميم القلب، ويتفاعل مع كل مشهد ويتأثر ويتعاطف ويتوتر ويخاف على أبطاله لدرجة أنه يتمنى لو يقدر أن يمد يده لينتشلهم أو ينقذهم أو يحذرهم لحظة الخطر.

رقي

مروان حامد وأحمد مراد صنعا ملحمة تاريخية ستعيش طويلاً وتبقى خالدة في السينما العربية، وأهمية «كيرة والجن» ليست محصورة بالجودة العالية للصناعة السينمائية التي تفتح شهية الجمهور على مشاهدة المزيد والمزيد من هذا المستوى الفني الراقي والذي يندر وجوده، إنما يستقي أهميته أيضاً من أن أحمد مراد سلط الضوء على أبطال صنعوا التاريخ بدمائهم، أبطال شاركوا في تحرير مصر من الاحتلال البريطاني وبالكاد نعرفهم بل كثير منّا نحن العرب يجهل وجودهم أصلاً، ويحسب أن شخصيتي كيرة والجن من صنع خيال الكاتب. أحمد (كريم عبد العزيز) هو ابن الفلاح المصري البسيط عبد الحي كيرة الذي اعترض على قتل الجنود البريطانيين للحمام الذي يربيه في أرضه وبيته، وانضم إليه أهل قريته دنشواي فأطلق الجنود الرصاص ما أدى إلى مقتل عدد من الفلاحين من بينهم امرأة واحدة هي زوجة عبد الحي كيرة ثم وقعت مجزرة دنشواي الشهيرة في 23 يونيو 1906 حيث تم إعدام مجموعة من هؤلاء الفلاحين منهم عبد الحي الذي شنق في أرضه وأمام أعين أهل القرية وابنه الوحيد أحمد الذي حضر من القاهرة ليفاجأ بالمشهد المهيب. أحمد طبيب يعتبره الإنجليز ابنهم الوفي، منحوه الثقة التامة لدرجة أنه يتصرف في المستشفى بحرية تامة، في حين يراه المصريون «ابن الإنجليز» الذي يخدمهم ضد بلده.

في المقابل يقف على باب المعسكر البريطاني «الجن» (أحمد عز) تاجر يبيع أي شيء ليكسب قوته، فهلوي لا يشغل باله بالسياسة ولا بالثورة السرية التي يحكى عنها، يتشاجر مع عربي الترمواي (أحمد عبدالله محمود) فتوة الحارة، ونقطة ضعفه الوحيدة والده الذي كان في الجيش المصري القديم ويعيش معزولاً مكتئباً في بيته الفقير.

والد كيرة ووالد عبد القادر شحاته الملقب ب «الجن» هما السبب وراء اتخاذ الرجلين، كل من جهته، موقف الانقلاب على البريطانيين وحث الناس على الثورة لتحرير مصر منهم. الصدفة تقود الجن إلى مقر المعسكر البريطاني للانتقام من قائده دوجلاس الذي قتل والده، وفي نفس الأثناء تكون مجموعة أحمد كيرة هناك كل متخف بزي مختلف من أجل تنفيذ عملية اغتيال دوجلاس، ومن هنا تبدأ العلاقة التي كانت متوترة ومشدودة بين كيرة والجن لتتحول إلى صداقة متينة جداً بعد انضمام عبد القادر الجن إلى الثوار الذين كان مقرهم السري تحت مقهى «ريش» من أشهر مقاهي القاهرة.

توتر

تتقلب الأحداث التي تستمر ثلاث ساعات دون أن تصيبك بأي ملل، بل تبقى مشدوهاً، تخاف على أحمد عبد الحي كيرة وأبطال ثورة 1919، وصولاً إلى عام 1924 بعد مقتل السير لي ستاك، حيث تم القبض على بعض قاتليه ومنهم نجيب الهلباوي (سيد رجب) الذي يغير مجرى الأحداث.

مجموعة كيرة ضمت دولت فهمي التي سبق أن تصدت لشخصيتها الدراما المصرية، فتاة من صعيد مصر عملت ناظرة بمدرسة الهلال الأحمر القبطية للبنات، عاشت ثورية وأرادت أن تثبت أن للمرأة المصرية دوراً كبيراً في مواجهة الاحتلال وقد فعلت، أدتها هند صبري باقتدار، إبراهيم (أحمد مالك) الشاب الفنان الذي أراد أن يثبت لوالده أنه صاحب رأي وشخصية ويحب فتاة أجنبية ألكسندرا (لارا إسكندر)، راغب (علي قاسم) الأبكم الذي يقرأ الشفاه فيفهم ما يدور حوله. مجموعة جسدت حقيقة الشعار الذي رفعوه في ثورة 1919 «يحيا الهلال مع الصليب» وضمت معهم يهودياً مصرياً وكانوا كأسرة واحدة دون أي تمييز بينهم.

أحداث «كيرة والجن» تستمر حتى ثورة 1952، لكنها تستمر مع الجمهور إلى ما بعد انتهاء الفيلم. حتى المرور السريع لأي ممثل يترك بصمة وذلك بفضل براعة المخرج في جعل كل فنان في المكان المناسب، دون أن ننفي الجهد الذي بذله الممثلون وتألق الثنائي الرائع كريم عبد العزيز وأحمد عز، كريم كتلة مشاعر تفيض على الشاشة، وعز خفة الظل الساخرة العنيدة القوية، لكل منهما سحر لا يطغى على الآخر.

ضيوف شرف

نجوم كثر مروا في الفيلم ضيوف شرف، روبي بدور زوجة كيرا التي لم تعرف يوماً أنه قائد ثورة؛ بل اعتقدت مثل كل الناس أنه ابن الإنجليز المدلل، إياد نصار بدور حسن نشأت، كريم محمود عبد العزيز، بدور فهمي ابن كيرة الذي يظهر بصوته طوال الفيلم ثم يطل في المشهد الختامي، والممثلة اللبنانية البريطانية رزان جمّال الرائعة التي استطاعت لفت أنظار الجمهور بقوة، بدور البريطانية إميلي.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"