عادي
لوحة تتناول إحدى أبرز الخرافات اليونانية

«سقوط ايكاروس».. الرسم يداعب العين بالأسطورة

23:02 مساء
قراءة 4 دقائق
4
5

الشارقة: علاء الدين محمود
يعيد الفن إنتاج الحكاية الأسطورية من جديد عبر تفسيرها وتأويلها بطريقة مختلفة، وفي كثير من اللوحات التي عالجت القصص الأسطورية، عمل الفنانون على أن يعبر العمل عن رؤيتهم حول الأسطورة وموقفهم منها تجنبا لمسألة تكرار الحكاية كما هي، وبالفعل لقيت تلك الأعمال قبولاً كبيراً وصدى جيداً، خاصة أنها حافلة بالقيم الحكم والمعاني الإنسانية.

الفنان بيتر بروجل الأكبر «1525 1569»، هو رسام من أشهر فناني عصر النهضة الهولندية من القرن السادس عشر، تميز بتصوير مشاهد من المواضيع الدينية والحكايات الأسطورية إضافة إلى المناظر الطبيعية الريفية التي تتجلى فيها الحيوية البالغة والشعور بالمرح، وله العديد من اللوحات الشهيرة الموجودة في عدد من المتاحف العالمية، وهو والد الفنان الشهير بيتر بروجل الأصغر.

لوحة «سقوط ايكاروس»، التي رسمها بروجل عام 1555 تعتبر من أهم أعماله الفنية، وتنتمي إلى أسلوبيته ومنهجيته حيث درج على اختيار مواضيع تنتمي إلى الأساطير والحوادث ذات الطابع الديني، وهذا العمل يصور حكاية من الميثولوجيا اليونانية القديمة وهي قصة ايكاروس الذي كان محتجزاً وأباه ديدلوس في متاهة جزيرة «كريت» عقاباً لهما من مينوس، ملك الجزيرة، وتقول الحكاية أن والد ايكاروس، قام بصنع أجنحة له ولابنه من الشمع والريش، ثم قام بتجربتها أولاً، ولكن قبل أن يحاولا الهرب من الجزيرة، حذر ابنه من الطيران بالقرب من البحر أو الشمس وطلب منه أن يتبعهُ فقط، لكن بسبب الدوار الذي تغلب على ايكاروس الذي طار نحو السماء بشكل جنوني وأصبح قريباً جداً من الشمس، فأذابت حرارة الشمسِ الشمعَ في الأجنحة، ولكنه استمر بتحريك يديه، وبذلك سقط ايكاروس في البحر ومات غرقاً في المنطقة التي تسمى الآن ببحر إيجة قرب إيكاريا.

استفاد بروجل من الحكاية الأسطورية التي استند إليها عمله، لكنه أراد في لوحته أن يكون له موقفه الخاص، الجمالي والفكر، وكأنه أراد أن يقول: «الحياة تستمر ولا تكترث لأوجاع الآخرين وأحلامهم»، ففي هذه اللوحة رسم بروجل يد ايكاروس في الماء وبعض الريش على سطح الماء بشكل غير محوري في اللوحة يكاد أن يكون غير ملحوظ وكأنه يتجاهله، وبينما يغرق ايكاروس يستمر الجميع في عملهم.

تفاصيل

يتعين على المشاهد أن يتعمق في النظر إلى العمل من أجل التقاط تفاصيلها التي تكاد تكون غير مرئية، حيث إن اللوحة تبدو للوهلة الأولى منظراً طبيعياً هادئاً لا تتخلله شائبة، ولكن لو أمعنا النظر لوجدنا في أقصى اليمين إلى الأسفل ساقين بارزتين فوق الماء، ويتضح أنها لشخص يغرق، ولكن بالكاد يمكن رؤيتهما بوضوح من النظرة الأولى، هاتان الساقان هما لايكاروس الذي يشير عنوان اللوحة إلى سقوطه، ومما يجعل اللوحة محتشدة بالمعاني والرؤى أن الفنان قد جعل من الحدث «سقوط ايكاروس»، أمراً هامشياً لا يعني شيئاً أمام سير الحياة اليومية، فلا الفلاح الذي يحرث الأرض يلتفت لما حدث، ولا راعي الأغنام ينظر باتجاه ايكاروس، بل إنه يسير في الاتجاه المعاكس، وحتى الصياد الذي يبدو قريباً جداً من الواقعة لا يلتفت ولا يبدي أي اهتمام، وكذلك السفينة القريبة من الغريق قد فتحت أشرعتها لتسير باتجاه المحيط دون أن تعبأ بما حدث، لا أحد يريد أن ينقذ ايكاروس من مصيره، فالحياة تمضي ولا يوجد ما يمكن أن يوقف مسارها مهما كان.

برع الفنان في إبراز عناصر اللوحة المرسومة بألوان الزيت، بطريقة تعكس الفكرة، فكل شيء بدءاً من الفلاح والذي يحتل مركز اللوحة وانتهاءً بالعناصر الطبيعية كالسماء والبحر التي تحتل مساحة كبيرة في اللوحة، كل هذه الأشياء والكائنات غارقة في اللامبالاة ولا تحفل بمأساة ايكاروس، والتي تبدو في اللوحة مجرد عبء أو مغامرة فردية، وكأن الفنان أراد أن يقول إن الحياة ملأى بالمآسي والأحداث الجسام التي يمر بها البشر من دون أن تتوقف مسيرتهم، فكل حادثة مهما بدت عظيمة فإن مصيرها النسيان وتلك هي طبيعة البشر.

برع الفنان في صناعة تفاصيل مشهد طبيعي يتسم بالجمال، فالصورة مطلية بدرجات مختلفة من الألوان الهادئة الناعمة، في ما تشغل الشمس الخلفية الكاملة للأفق، وهذا له رمزيته، حيث إن الشمس في اللوحة ليست مجرد بقعة مشرقة، بل كأنها هي المتسبب الرئيس في سقوط وموت البطل ايكاروس، وتظهر في العمل وكأنها تتفرج من بعيد على جريمتها حيث إن الصورة تظهر بأكملها أمام العين عبر شعاع ضوء الشمس الخافت، مما يخلق مشهداً تراجيدياً حزيناً.

شعر

ولئن كانت اللوحة مستوحاة من الأسطورة ومن أعمال الشاعر الروماني أوفيد وخاصة عمله «التحولات»، والذي يتناول الميثولوجيات الإغريقية والرومانية، فقد أصبحت مصدر إلهام للعديد من الشعراء، حيث استوحى منها الشاعر البريطاني مايكل هامبرغر قصيدته بعنوان «سطور وكلمات عن ايكاروس الخاص ببروجل»، كما قام الشاعر الأنجلو-أمريكي ويستن هيو أودن بوصفها في قصيدته «متحف الفنون الجميلة» وهو المكان الذي تقبع فيه اللوحة، ويقول في بعض من تلك القصيدة الشهيرة:

«في لوحة بروجل مثلًا/ كيف يشيح كل شيء/ بعيداً عن الكارثة/ غير عابئ/ لعل الفلاح سمع صوت رشاش الماء، سمع الصرخة المنبوذة/ ولكن بالنسبة له لم يكن سقوطاً مهماً».

صدى

وجدت اللوحة صدى كبيراً بين الفنانين والأدباء والشعراء والنقاد، حيث يصف الناقد والفنان الأمريكي جون ساذرلاند المتخصص في الرسوم المتحركة اللوحة قائلاً: «هي قصة ذات مغزى وعبرة للتطلع والطموح البشري»، حيث اعتبر الكثير من النقاد أن اللوحة هي أيقونة تبرز الزهو والغرور البشري.

اللوحة موجودة الآن في المتحف الوطني في بلجيكا، وقد أثارت جدلاً كبيراً حول نسبتها إلى الفنان بروجل، خاصة بعد أن خضعت لفحوص تقنية وتحليلات علمية في عام 1996، تم التشكيك في أصول اللوحة، وتوصلوا إلى أن اللوحة بالتأكيد هي نسخة من العام 1558 رسمها فنان ما في أعقاب فقدان اللوحة الأصلية لبروجل، ولكن في حقبة زمنية مواكبة للوحة الأصلية، حيث إن الإنشاء والتركيب والصيغة الأصلية تعود لبروجل، ولكن التنفيذ ليس له.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3weuj749

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"