البحر المتوسط وسوق الهجرة السوداء

00:06 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. كمال بالهادي

من السهل جداً أن تركب البحر أو الطائرة، وأن تكون وجهتك إحدى دول الاتحاد الأوروبي، كلمة السرّ التي تفتح الحدود المغلقة والأبواب الأوروبية الموصدة، هي «ادفع». فكلما دفعت أكثر كانت رحلة أكثر رفاهية، وكانت طرقك مؤمنة إلى الوجهة التي تريد أن تقصدها.

يسارع الأوروبيون إلى تقديم مساعدات لدول جنوب المتوسط لقاء خدمة «حراس الحدود الجنوبية»، لكن تلك الأموال التي تذهب فعلاً إلى خزائن دول الجنوب لا توقف نزيف الهجرة غير الشرعية. فعشرات الآلاف من كل الجنسيات والأعراق ومن كل الفئات العمرية والشرائح الاجتماعية، يخاطرون بحياتهم وأموالهم، من أجل الوصول إلى إيطاليا أو فرنسا ومنهما إلى أي دولة أوروبية أخرى يختارها المهاجر غير الشرعي.

يقول أحد المشاركين في هذه الرحلات، إن الأمر بسيط جداً، ونوع الرحلة يتوقف على حجم المبلغ الذي يوفّره الراغب في الهجرة. تتراوح المبالغ بين ألفين وخمسة آلاف دولار. وبما أن أغلبية المهاجرين من الفئات الاجتماعية الهشة والمتوسطة، فإنهم يختارون الرحلات الأقل كلفة خاصة أن هذه الرحلات باتت تشارك فيها عائلات بأكملها. بمعنى أن تركيبة الهجرة السرية بدأت تتغيّر وتتخذ أنماطاً جديدة، فبعد أن كانت فردية (يشارك فيها أحد أفراد العائلات) صارت في هذه الفترة تتخذ أشكالاً جديدة فصرنا نجد عائلات بأكملها تركب سفن الموت، وفي ذلك رهانات جديدة للمهاجرين السريين. فهم يعرفون أن للأطفال حقوقاً، وهذا يضمن للأولياء إقامة دائمة في بلدان المهجر. وعلى الرغم من الفواجع الكثيرة التي تحصل في عرض البحر الأبيض المتوسط، فإن السوق السوداء للهجرة السرية تعيش انتعاشاً كبيراً في فصل الصيف.وفي أحدث إحصاءات وكالة فرونتكس، (وكالة مراقبة حدود الاتحاد الأوروبي)، فإن عدد عمليات الدخول غير القانوني إلى الاتحاد الأوروبي زادت بنسبة 86 في المئة منذ مطلع العام الجاري وحتى يوليو ليصل عددها إلى 155090 مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. كما ذكر بيان ل «فرونتكس» أن الربع الأول من العام الجاري، شهد زيادة بنحو 57 في المئة مقارنة بالعام الماضي، مضيفاً أن عدد عمليات الدخول غير الشرعي للفضاء الأوروبي وصل خلال شهر يوليو الماضي إلى 14 ألفاً و866 عملية، موضحة أن هذا العدد يمثل نحو ثلاثة أضعاف ما كان عليه الحال في يوليو من العام الماضي عبر طريق البلقان وهو الطريق «الأكثر نشاطا».

واعترفت الوكالة بأن 7.7 مليون أوكراني دخلوا دول الاتحاد منذ اندلاع شرارة الحرب في هذا البلد في شهر فبراير الماضي. وهو رقم يمثل ضغوطاً قوية على دول الاتحاد المنهكة أصلاً من تبعات الحرب.

أما طريق البحر المتوسط، فقد سلكها أكثر من 42500 مهاجر غير شرعي خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الجاري، بزيادة ناهزت 44 في المئة عن الأعداد التي تم تسجيلها في الفترة ذاتها من العام الماضي فيما سجل طريق الحوض الشرقي للمتوسط عبور أكثر من 22601 وهو ما يمثل «أكثر من الضعف» مقارنة بالعام الماضي.

الغريب أن دول الاتحاد وعلى الرغم من قدراتها العسكرية والتقنية وعلى الرغم من الأموال التي تنفقها من أجل دفع حكومات الجنوب للقيام بالمساعدة على وقف الهجرة، إلا أنها تفشل فشلاً ذريعاً في وقف مجموعات من الشباب قادمة من أقاصي الصحراء ودون تعليم أو مال من دخول أراضيها. صحيح أن دول الاتحاد تراهن على استقطاب الكفاءات وتفرض معايير صارمة لدخول أراضيها والإقامة والعمل في مؤسساتها أو الدراسة في جامعاتها. 

هذه الدول التي تدعي إيمانها بحقوق الإنسان إنما تمارس التمييز العنصري حينما يتعلق الأمر بالهجرة إليها. وفي المقابل تسهم في صنع دول فاشلة في جنوب المتوسط والقارة الإفريقية، وتسهم أيضاً في خلق أجيال جديدة من الشباب الذي يستغل التكنولوجيا وأسواقها السوداء في فرض حركة هجرة جماعية تتخطى كل القيود والحواجز وذلك بمساهمة فاعلة من قبل عصابات تهريب البشر في منطقة البلقان. وهذه الأجيال الجديدة من المهاجرين لا تعترف بأي قيود أو حدود، ولا تخشى المغامرة واقتحام الحدود الأوروبية على الرغم من فقرها المدقع. فهي ترى أن جانباً من ثروة الأوروبيين مصدرها قارتهم المفقّرة، وهم يطالبون باستردادها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/25a976a4

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"