ماذا بقي من أفكار الحداثة؟

00:42 صباحا
قراءة 3 دقائق

كمال بالهادي

أكثر القراءات الفكرية تشاؤماً كانت تلك التي تم إطلاقها في نهاية القرن العشرين، والتي حملت نبوءات بصِدام حضاري بين الغرب والشرق، وقد شهد العقدان الأوّلان من القرن الحالي فصولاً كثيرة من هذا الصّدام الذي لا يزال مستمراً إلى يومنا هذا.

إنّ ما يدعونا إلى الحديث عن هذا الموضوع، هي حالة الصراع القائمة الآن على الحدود الفاصلة بين الغرب والشرق، من أوكرانيا شمالاً، إلى اليمن جنوباً. وهذا الصراع ينذر بتفجر الوضع نحو مواجهة أوسع، وأكثر شمولية، بين طرفي الحضارة الإنسانية، بعد أن بدأت الاصطفافات تزداد وضوحاً، من يوم إلى آخر، وهذا ما يهدد الجنس البشري بالفناء، فيما لو استمرت هذه الأفكار المدمّرة في قيادة العالم نحو حتفه المحتوم.

إنّ حدة الصراع القائمة تجعلنا نسأل عمّا بقي من قيم الحداثة التي سادت منذ عصر النهضة الأوروبية، ومنحت العالم والإنسانية قيماً كونية، مثل العدالة، والمساواة، والحرّيات، والفردانيّة الفاعلة؟ صحيح أنّ الحداثة الأوروبية كانت ملطخة على مرّ القرون الماضية بدماء الأبرياء، في كل القارات، وصحيح أن الحداثة الغربية كانت مرتبطة بتاريخ استعماري مقيت، وبجرائم إبادة ارتكبت في مشرق الأرض ومغربها، وبعقلية عنصرية لم يتخلص منها الغرب إلى اليوم، ولكن لا أحد ينكر أنّ تلك الحداثة هي التي ساهمت في انتشار قيم الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، وغيرها من القيم التي انبنت عليها التجارب السياسية الحديثة في كلّ دول العالم، أو هي ما زالت مطمحاً جديّاً من مطامح الشعوب التي ما زالت تبحث عن تقرير مصيرها السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي. نحن لا ننكر أن الحداثة الغربية هي التي رسّخت الروح العلمية والتفكير العقلاني، وأعلت من شأن الإنسان/ الفرد/ المواطن في الدولة، والمجتمع. ولكن ما فائدة هذه القيم عندما نرى الحقوق الدنيا للإنسان تذبح على مذبح المصالح الذاتية لهذه الدولة، أو تلك؟ وما الذي بقي فعلياً من كل قيم الحداثة عندما نرى شعباً بأكمله يذبح أمام أعين الجميع؟

لقد أثبتت الشعوب الأوروبية من خلال تظاهرها المستمر على مدى الأشهر الخمسة الماضية، أنّ خللاً كبيراً ضرب الحداثة الغربية في مقتل، وهذا الخلل اتضح بين القيم التي نشأت عليها أجيال كاملة، ودرستها طوال عقود من الزمان، وبين واقع تلك القيم ومواقف الدول الغربية من أزمة فلسطين، ومن أحداث غزة على وجه التحديد. ولا شك في أنّ صدمة كبرى تلقتها هذه الشعوب وهي ترى كل القيم الإنسانية تُصلب.

إن أسئلة عميقة يعيد المفكرون الغربيون طرحها حول العلاقة مع الشرق وحول قضايا تاريخية شائكة لم يكن مسموحاً الحديث فيها. ولكن حدث غزة أسقط كل الأقنعة واحدث رجة معرفية عميقة، في قلب دول الحداثة. فالفيلسوف الفرنسي، إدغار موران، يعتقد أن حضارتنا تتخبط في أزمة عميقة، مشيراً إلى أنه «لم تتعرض الإنسانية قط لمثل هذا القدر من المخاطر، لأنه إذا انتشرت الحرب على نطاق واسع، واستخدمت الأسلحة النووية وغيرها، فإننا لا نعرف إلى أين نتجه، لأي تراجع، أو لأي انحطاط». ويعتبر الكاتب حميد دباشي، أستاذ الدراسات الإيرانية في جامعة كولمبيا، أن تجاهل الفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس، حياة الفلسطينيين يتوافق تماماً مع صهيونيته. وهو ينسجم تماماً مع النظرة العالمية التي ترى أن غير الأوروبيين ليسوا بشراً بالكامل، أو أنهم «حيوانات بشرية»، كما صرح وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، علناً.

وحسب الكاتب، فإن هذا التجاهل المطلق للفلسطينيين متجذر بعمق في الخيال الفلسفي الألماني، والأوروبي. وتتمثل الحكمة السائدة في أن الألمان، بسبب ذنب المحرقة، طوّروا التزاماً قوياً تجاه إسرائيل. أما رئيس معهد تونس للفلسفة، فتحي التريكي، فيري أن «الحرب فكرة فلسفية، وظاهرة سياسية في الآن نفسه»، وأن الإنسانية «إنسانيتان، إنسانية قاهرة وإنسانية مقهورة».

إن عقلية القهر التي رافقت مسار الحداثة الغربية منذ نشوئها، إلى حين بداية انهيارها، هي التي تكشف زيف كل القيم التي تم الإغراء بها ووظفت في كثير من الأحيان في سياق تغيير مصير دول، وتدميرها، مثلما حدث في دول عربية خلال السنوات الماضية، عندما تم التبشير بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان فكانت النتيجة أن ذهب ملايين الأشخاص فارّين من بلدانهم بعدما أحرقتها التدخلات الخارجية بحروب داخلية.

إنّنا لا نقول إنّ قناع الحداثة قد سقط في أحداث غزة، و لا نقول إن قيم الحداثة كلها كانت مجرد خدعة قاسية، مرادها هو التدخل في شؤون الشعوب والدول حتى تكون خاضعة للدول التي تحمل لواء الحداثة، ولكننا نقول إنه لو كانت هذه القيم أصليّة فعلاً، لما سمحت بهدر دماء الأطفال، ولما سمحت باستعمال الأسلحة النووية قبل عقود من الآن، بل لما سمحت بأن تعود التهديدات بنشوب حرب نووية جديدة بين قطبي الشرق والغرب، وبأن تقف البشرية على حافة الهاوية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/36ayurmv

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"