عادي

عبدالعزيز جاسم.. ديك الفلسفة

01:20 صباحا
قراءة 5 دقائق

يوسف أبولوز

في هذه الزاوية، نحتفي بمجموعة من أبرز مبدعينا الذين قدموا لمسات أدبية جمالية وإمتاعية، أثرت الوجدان، وارتقت بذائقة القراء، منحونا زاداً عبّر عن إنجازات الوطن وتحولات المجتمع وهموم البشر، كانوا ذاكرتنا التي تؤرخ للمكان ومدونتنا التي عبرت بصدق وإخلاص عن آمالنا وأحلامنا، هم قناديلنا التي نسترشد بها في دروب الحياة.

في مفتتح مجموعته الشعرية الصادرة في بيروت 1995 اختار عبد العزيز جاسم، أن يقتبس من الفيلسوف الألماني والتر بنيامين جملته الفلسفية «على أقل تقدير لا سيطرة لأحد على رجل ميت»، لكن ما الاسم أو ما العنوان الذي اختاره الشاعر المولود في رأس الخيمة عام 1961 لمجموعته الشعرية الأولى؟.. اختار العنوان «لا لزوم لي»، وأودّ هنا أن أكتب جملة كما لو أنها جملة اعتراضية بين قوسين حين نتحدث عن الاسم وعن العنوان للمجموعة الشعرية، أي مجموعة شعرية. فالمجموعة يناسبها العنوان وليس الاسم.. نقول: «عنوان المجموعة الشعرية»، ولا نقول اسم المجموعة الشعرية، ذلك أن الاسم دلالته واحدة لا تقبل أي تأويل.

إن اسمك هو اسمك في جواز السفر وبطاقة الهوية وشهادة الميلاد، أما عنوانك فقد يتغير. عنوانك قد يدل عليك وقد لا يدل، فأنت في حالة العنوان كائن التباسي متعدد، وقابل للتأويل، أما في حالة الاسم، فأنت واحد اسمك واسم أبيك وجدك هو اسم عائلي واحد لا يقبل النقض ولا التغيير، وقد تستطيع في كل عام أن تغيّر عنوانك ومكان سكنك أكثر من مرة، ولكن كل عمرك لن يتغير اسمك ولا مرة واحدة، وإن غيرته لمرة واحدة، فهي المرة الأخيرة.

لا لزوم لي

إذاً، اختار جاسم العنوان ولم يختر الاسم.. اختار «لا لزوم لي»، ولكن المفارقة هنا، أن كل اللزوم له، لا بدّ منه كشاعر وإنسان وعاشق، على النقيض الكلي من عنوان مجموعته التي تشبه عنوان بيته، فإذا كان لا لزوم له هناك، فله لزوم هنا، لا بدّ من قصيدة هذا الشاعر الذي يُروى أنه وُلِدَ في قارب كانت تقلّه عائلته وهي في طريقها إلى البحرين، فقد وُلِدَ في الماء وفي فمه لؤلؤة كبحّارة الخليج وصيّاديه القدماء الذين كثّف ثقافتهم المائية أو كثّف ثقافة البحر في كتابه الصغير المركّز مثل الملح: «مجهول البحر ومعلومه».

شعرية القسوة

لأمر ما هنا أعود إلى اقتباس عبد العزيز من بنيامين الذي كان يجمع بين الفلسفة والتصوف «..لا سيطرة لأحد على رجل ميت»، ومرة ثانية أجد هنا بعض المفارقة، فكل شعرية جاسم هي شعرية القسوة، شعرية الحدّة، وعدم التفاوض مطلقاً على لون حيادي. إن شعريته هي شعرية الانعتاق، والحرية، له مجموعة عنوانها «افتح تابوتك وَطِرْ»، وهي استثنائية إعجازية لا يفعلها إلا عبد العزيز جاسم الذي يتألف من أكثر من شخص مفرد، فهو متعدّد في واحد، وهو إن مشى في طريق فهو يتوجه إلى أكثر من عنوان. كأن لا مكان واحد لقصيدته، وفعلاً لا نظرياً، لا مكان واحد لقصيدته، لكن مشيمة هذه القصيدة مشدودة إلى رأس الخيمة.

المكان الأول

ومن ناحية تشريحية إذا أردت القول ففي ما هو بعيد وناء في قصيدته ثمة دائماً ما هو أصلاً في مكانه الأول. جلفار ببعدها التاريخي، والميثولوجي، والحكائي، والجمالي، ورأس الخيمة ببعدها الاجتماعي والثقافي حيث من رأس الخيمة أو فيها يتفتح وعي وشباب عبد العزيز على مجموعة من الأصدقاء ينحدرون كلهم من عائلة الكتابة: محمد يوسف، جمعة الفيروز، ثاني السويدي، علي أبو الريش، عبدالله عبد الرحمن، أحمد العسم، عبدالله السبب، عبدالله الهدية، وكثير من الموسيقيين والمغنّين الشعبيين، والمسرحيين، وقبل ذلك، فضاء البحر والبحّارة. فضاء الغوص، والنخل، وشجر السدر، والقيظ، والليالي المسكونة بحكايات الجن والسحر والغموض، كما لو أن الواقعية السحرية.. المصطلح الذي تحدث عنه نقاد ماركيز، كان قد خرج من رأس الخيمة، وليس من كولومبيا.

تأسيس

بدأ جاسم قاصاً في بداية ثمانينات القرن العشرين، وبدءاً من دراسته في جامعة الإمارات ومن دفعته آنذاك: خالد البدور، وخالد الراشد، وأحمد راشد ثاني، وعادل خزام، وعلي العندل.. أخذ يؤسس نفسه ثقافياً بقراءات عديدة على رأسها الفلسفة، وقصة الفلسفة هذه قصة طويلة، ولعل قصة الفلسفة هي قصة عبد العزيز جاسم نفسه، فقد حَدّد عنوانه السكني بالقرب من كبار فلاسفة ومفكّري العالم المنشغلين بسؤال الحياة، والوجود والعقل والحب، والموت والاغتراب والمنفى، والتصوّف، والتاريخ المهمل للإنسان مثل تاريخ القلب، لكن من زاوية فلسفية فكرية عصبها الشعر.

لا أدري فعلاً هل قرأ عبد العزيز جاسم الموروث العالمي في الفلسفة الشرقية والغربية والفطرية، واللّاهوتية والهرمسية، وغيرها من عناوين زلزالية في الفكر.. أقول متسائلاً: هل قرأ صاحب «جحيم نيوتن» الفلسفة بحثاً عن الشعر، أم إنه قرأ الشعر بحثاً عن الفلسفة، ثم أدوّر السؤال بتشكيل استفهامي آخر: هل قرأ عبد العزيز جاسم الفلسفة بدافع من الشعر، أم إنه قرأ الشعر بدافع من الفلسفة؟ ثم ما هو المختبر السرّاني الذي يعمل عليه صاحب «أثر الكلمات والتنادي» وهو يعجن الفلسفة بالشعر أو يعجن الشعر بالفلسفة، ومن غيره وحده معه مفتاح هذا المختبر.

قصب الكلام

إذا قرأت عبد العزيز جاسم، ولم تكن قد قرأت الفلسفة، فإنك لن تجد عنوانه ولا مسكنه؛ بل ولن يدلك عليه أحد، وإذا كان أبو يزيد البسطامي أمضى 20 سنة في طلب أبي يزيد البسطامي ولم يجده، فإن عبد العزيز جاسم أمضى سنوات عمره في طلب امرأة بالغة الاكتمال اسمها الفلسفة، ولكنه وجدها، وأخيراً، جلس في كنف حجرتها القصبية، ومن قصب الكلام سوّى نايه، ولم تسقط دمعته إلا على أمر صعب هزّ قلبه أو هزّ ذلك الوتر العشقي الحريري في ذاته المبدعة.

ولكن أظل محافظاً على الخط البياني لهذه الصورة القلمية أذكر لك أن عبد العزيز جاسم انتقل سريعاً من القصة القصيرة إلى الشعر، ومن بوّابة الشعر دلف إلى قراءات مركّبة بعضها إن لم يكن أكثرها ليس سهلاً، فالقراءة مثل الكتابة لها صعوبتها أيضاً، وهو أميل إلى قراءة الصعب. يهضم ما يقرأ، ويحتفظ بالنسغ والفكرة والجوهر، وفي سجالاته وحواراته الجميلة في كل الليالي وفي كل المدن، تظهر بإشراق بالغ الشفافية والوضوح كل ذلك النسغ، وكل تلك الأفكار التي عصرها من الكتب في دماغه، ليقول لك بعد ليلة طويلة من الجدل: إلى أين تذهب إذا كنت لا تعرف الطريق، ولا تعرف البيت.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p8wpz92

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"