حدود الواقعية الألمانية

01:04 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

يبدو مفهوماً الاحتفاء الصيني الواسع بزيارة المستشار الألماني أولاف شولتس لبكين، تحديداً لأهمية التوقيت، فبعد إعادة انتخاب الرئيس الصيني شي جين بينغ أميناً عاماً للحزب الشيوعي، ورئيساً لجمهورية الصين الشعبية، للمرة الثالثة، كانت بكين بحاجة إلى مثل هذه الزيارة الرفيعة، لتؤكد إعلامياً مدى القبول العالمي لخيارات الصين السياسية، وسط موجة من الاستنكار الواسع إعلامياً في العالم الليبرالي، لتوجه الصين نحو حكم الفرد الواحد، وهي المحكومة منذ عقود طويلة بحزب واحد.

لكن، بعيداً عن الصخب الإعلامي من كلا الطرفين، الغربي والصيني، فإن خطوة المستشار شولتس، أتت مدفوعة بضرورات ألمانية وأوروبية ودولية، سياسية واقتصادية، في الوقت نفسه، فعلى الرغم من أن خيارات الصين في السياسة الداخلية هي أحد المؤشرات المهمة في الرؤية الغربية عموماً لاستمرار الصين في التزاماتها العالمية، إلا أن مجريات الأحداث في الأشهر الأخيرة، بعد التداعيات الكبيرة للحرب الروسية الأوكرانية، لا تسمح لألمانيا، بوصفها القائدة الاقتصادية لأوروبا، بإحداث المزيد من التعقيدات بين أوروبا والصين.

قبل زيارته إلى الصين، وافق المستشار شولتس على صفقة لشركة «كوسكو»، وهي شركة عملاقة في مجال النقل البحري، يُسمح بموجبها لهذه الشركة بالاستحواذ على حصة في ميناء هامبورغ، وهو أحد أهم الموانئ الأوروبية، في ميادين الاستيراد والتصدير، بشرط خفض نسبة الاستحواذ، لكن النصائح الأمنية كانت قد حذّرت من الانعكاسات الأمنية المحتملة للصفقة، بغض النظر عن نسبة الاستحواذ، كما أن ستة وزراء في حكومة المستشار، أعلنوا عدم موافقتهم على الصفقة، وأيضاً بدواعي حماية الأمن القومي.

الخطوة الألمانية تجاه الصين، تندرج تحت بند الواقعية السياسية، فألمانيا، ومنذ الأيام الأولى للحرب في أوكرانيا، لم تكن متحمّسة لدعم أوكرانيا بشكل كبير، ليس فقط انطلاقاً من أسباب تاريخية، تتعلق بدورها في الحربين العالميتين في القرن العشرين؛ بل لمخاوف محقة في انعكاسات تلك الحرب على موقعها الاقتصادي، بوصفها دولة معتمدة بشكل رئيسي على الغاز الروسي، وكانت قد مضت إلى ترسيخ حالة الاعتماد على موسكو في مجال الطاقة، على الرغم من الاعتراضات الأمريكية على مثل هكذا توجّه، لما يحمله من مخاطر استراتيجية، من وجهة نظر واشنطن.

مؤشرات الاقتصاد الألماني، من حيث زيادة تكاليف الإنتاج، نتيجةً حتمية في زيادة أسعار الطاقة، وتراجع في مستويات التوظيف، وتراجع قيمة اليورو أمام الدولار، وتضخّم الأسعار، وحدوث أزمات كبيرة في سلاسل التوريد، واضطرار الحكومة للتدخّل لدعم الشرائح المتضررة من المواطنين، وإقرار دعم للمؤسسة العسكرية بمبالغ غير مسبوقة، كل ذلك، يضع موقع ألمانيا دولةً رائدة اقتصادياً على المحك، لكن الأخطر من الناحية الاستراتيجية، هو التداعيات المحتملة على الاتحاد الأوروبي، فيما لو حدثت انتكاسات كبرى في الاقتصاد الألماني؛ حيث تشكل برلين مركز توازن وأماناً لمجمل دول الاتحاد.

لكن الواقعية الألمانية، في توجهها نحو إحداث توازنات في السياسات الدولية، ومحاولة إيجاد حلول وسط للأزمات، تعاني مشكلات عديدة، وفي مجالات مختلفة، فهي الآن تدفع ضريبة عدم تنويع سلّة الموردين للطاقة، واندفاعها السريع لتقليص الاعتماد على توليد الطاقة عبر المفاعلات النووية، في اعتقاد خاطئ منها باستمرار العلاقات الدافئة في مجال الطاقة بينها وبين موسكو، والاستفادة من الأسعار المنخفضة للطاقة الروسية، لتقوية القطاعات الإنتاجية الحيوية في اقتصادها، وهو ما يظهر اليوم بأنه حسابات خاطئة.

أما في مجال التبادلية الصناعية/ الاقتصادية، فألمانيا اعتمدت أيضاً على سلاسل توريد الصين، كما أنها استغنت عن عدد لا بأس به من الصناعات المتوسطة، تاركة لأسواقها المحلية الاعتماد الكلي على المصنع الصيني، وهو ما بدأت تعانيه ألمانيا منذ بداية جائحة كورونا، وتعرّض سلاسل التوريد من الصين للانقطاع.

هل تنجح الواقعية الألمانية في موازنة المناخ الاقتصادي والسياسي المضطرب أوروبياً وعالمياً، وأقلّه خفض خسائرها جراء الصراعات الدائرة؟

موازين القوى الحالي دولياً، لا يصب في مصلحة السعي الألماني لخفض التوترات، ومنع تداعياتها، كما أنها لا تمتلك أدوات الضغط على حليفتها الأطلسية، الولايات المتحدة، خصوصاً مع ازدياد حاجتها إلى واشنطن في مجالي الدفاع والأمن، كما أنها لا تستطيع الانفكاك السريع عن سلاسل التوريد الصينية، وهو ما يجعل من مساعيها، في أفضل الأحوال، تأخذ دور الوسيط، بين القوى المتصارعة، لتقليل إجمالي خسائرها الكلية داخلياً، والمساعدة ما أمكن على تماسك الاتحاد الأوروبي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5xwed8fm

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"