هجوم تكنولوجي كاسح

00:49 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

في دراسة ذات عنوان ساخر «ما أجمل العيش من دون مثقفين»، يؤبن الكاتب الإسباني ثيسار أنطونيو مولينا النخبة الثقافية القديمة بأكملها، تلك التي نحّتها التكنولوجيا الحديثة جانباً، وصعدت بالثقافة الشعبوية كبديل لها، ولكن ما هي سمات الثقافة الأخيرة؟

وفق مولينا، تتميز ثقافة مواقع التواصل بأنها تخلو من النقد الحقيقي والفعّال، ولأول مرة في التاريخ لم يعد هناك استخفاف بالجهل ولا بالذائقة الرديئة، وتختفي في تلك الثقافة القدرة على التمييز بين القبيح والجميل والأصيل والزائف، وفي مفصل آخر تحولت الثقافة نفسها إلى ترفيه، والتعليم أصبح بغرض التسلية وليس التأمل أو التنوير، وتراجعت معدلات القراءة، ولم يعد الكتاب المصدر الأول للمعرفة، بل هناك طوفان من المعلومات غير المحققة أو المدققة.

ليست المشاكل الثقافية التي نعانيها في العالم العربي تخصنا وحدنا، بل أصبحت هذه المشاكل معولمة، ونحن نعيد تدويرها بفضل وضعنا كطرف يتأثر بكل ما ينتجه المركز، ولكن يجب علينا أن ننتبه، ولا نعزي أنفسنا مثلاً عندما نقرأ أحد التقارير الدولية في الغرب يشير إلى تراجع معدلات القراءة هناك، فالوضع عندنا مركب، ففي كل مشكلة تسببت فيها مواقع التواصل سنجد تأثيرها مضاعفاً في بيئتنا العربية.

لنأخذ مثلاً مشكلة تراجع معدلات القراءة في العالم العربي، لا يمكن أن نخفي رؤوسنا في الرمال، ونقول هي ظاهرة عالمية، بفعل تغوّل ثقافة الصورة أو القراءة فائقة السرعة على «تويتر» أو «فيسبوك»، لا، القراءة عندنا تعيش أزمة حقيقية نتيجة لضعف معدلاتها مقارنة بالعالم من ناحية، وتأثرها بثقافة الصورة من ناحية أخرى. الحال نفسها تنطبق على اللغة، فإذا كان بعض المتابعين في الغرب ينتقدون الآن تلك اللغة الإنجليزية الغريبة التي يستخدمها الشباب في مواقع التواصل، فالمشكلة هنا مركبة أيضاً، فنحن نكتب في تلك المواقع بلغة تمزج العربية الفصحى بالعاميات المختلفة بالإنجليزية المكتوبة بالحرف العربي، وأحياناً ما تسأل نفسك: أية لغة تلك المستخدمة في هذه المواقع؟

إذا ذهبنا إلى تأمل حال النخب لدينا، تلك التي تأثرت أكثر من المركز، بصعود شعبوية مواقع التواصل، سنلاحظ أنها كانت تعاني قبل تلك المواقع ضعف قدرتها على التأثير في دوائر صنع القرار، فضلاً عن انفصالها الملحوظ عن جمهور فشلت لعقود ونتيجة لظروف كثيرة في التواصل معه، كانت النخب المثقفة في بلداننا في الأصل هشة ومحدودة، فجاءت مواقع التواصل لتزيحها تماماً عن المشهد من دون مقاومة.

تؤثر منظومة العولمة بما يلحقها من تكنولوجيا في العالم بأكمله، وفي ظرف ربع قرن، غيرت الكثير من مفاصل الحياة، ومنها الثقافة، وتلك الأخيرة مهمة لنا في العالم العربي لأكثر من سبب، فهي أولاً تعبر عن هوية المفترض فيها أصلاً أن تكون أداة مهمة في وجه العولمة، وثانياً نحن لا ننتج علوماً أو نتميز بصناعات كبرى، ولكن لدينا منتج ثقافي علينا أن نقف لنتأمل أحواله في ظل هجوم تكنولوجي كاسح يستهدف تغيير وجه الحياة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p8ve8uh

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"