الجغرافيا السياسية الجديدة لسلاسل توريد أشباه الموصلات

22:10 مساء
قراءة 4 دقائق

د. عبدالعظيم حنفي*

ترى دراسات أمريكية، أن الشركات الصينية ضاعفت، جهودها لتطوير نسختها الخاصة من تكنولوجيات الرقائق الإلكترونية، التي كانت تستوردها في السابق عبر سلاسل توريد مرتبطة بشركات أمريكية، مدفوعة في ذلك باستثمارات بمليارات الدولارات من قبل الدولة الصينية. وبدا الأمر وكأن الحكومة الأمريكية ستفقد سيطرتها تدريجياً على سلاسل إمدادات الرقائق الإلكترونية. ولتجنب هذه النتيجة، وللحفاظ على حد أدنى من السيطرة على ما يتدفق من هذه التكنولوجيا إلى الصين، كان على واشنطن «التوصل إلى إجماع» مع الدول الصديقة. لذا، منذ تولى الرئيس الأمريكي جو بايدن الحكم، في مطلع 2021، عمد مسؤولو إدارته إلى إثارة مسألة فرض ضوابط على تصدير الرقائق الإلكترونية كلما تحدثوا إلى حلفائهم. ومنذ 25 عاماً لم ير أشباه الموصلات تتصدر الأجندة الدبلوماسية بهذا الإلحاح؛ إذ بدأت الحكومات والشركات تنظم المنتديات، لمواءمة السياسات الخاصة بتجارة الشرائح والمعدات والمواد المستخدمة في صناعتهما. واليوم، تمثل المنتديات الجديدة الخطوات الأولى نحو إنشاء هيكل قادر على التحكم في تصدير أشباه الموصلات، على أمل المحافظة على التفوق التكنولوجي على الصين. كما تحتاج الولايات المتحدة أيضاً إلى معالجة اعتمادها على سلاسل التوريد التي تمر عبر منافستها الرئيسية أو حلفاء منافستها. ونظراً لأن وجود أشباه الموصلات في بلد ما يدعم نظاماً متكاملاً للنشاط الاقتصادي عالي القيمة. وأن التوترات الأمريكية الصينية بشأن الرقائق ستُحدد ريادة التكنولوجيا العالمية وبالتالي، ليس من المستغرب أن يُركز تبني الديمقراطيين الجديد للسياسة الصناعية أولاً وقبل كل شيء على أشباه الموصلات. وتسعى كل من الولايات المتحدة وأوروبا لاستعادة حصتها في سوق الرقائق، بعد انهيارها في العقود الأخيرة؛ إذ كانت الولايات المتحدة في التسعينات تستحوذ على نحو 40% من إنتاج رقائق السيليكون في العالم، فيما كان الاتحاد الأوروبي يستحوذ على أكثر من 20% منها، وفقاً للأرقام التي استشهدت بها واشنطن وبروكسل. في الوقت الحالي، تسيطر الولايات المتحدة على أقل من 15% من السوق، ويستحوذ الاتحاد الأوروبي على نحو 10% منها.

كما أعلن قادة الولايات المتحدة وكوريا اليابان وكوريا الجنوبية السعي إلى إبقاء توريد أشباه الموصلات آمنة، حيث ترى تلك الدول أنها تملك العديد من مفاتيح مستقبل تكنولوجيا تصنيع أشباه الموصلات. وفي هذا السياق وقع الرئيس الأمريكي في التاسع من أغسطس (2022)، على قانون الرقائق والعلوم لعام 2022، يسمح التشريع الجديد للحكومة الفيدرالية بإنفاق 52 مليار دولار لتمويل بناء مصانع جديدة لأشباه الموصلات في الولايات المتحدة. وسيتم تخصيص الأموال وفقاً للمعايير التي حددتها وزارة التجارة، لكن في المقابل، يمنع القانون متلقي الأموال الفيدرالية من زيادة إنتاجهم من الرقائق المتقدمة في الصين للسنوات العشر المقبلة. وتضمن القانون حزمة بقيمة 280 مليار دولار في صورة إعانات وتمويل لتعزيز القدرة التنافسية للولايات المتحدة في الإنتاج المحلى للرقائق الإلكترونية، وأشباه الموصلات. وقد وصف البيت الأبيض الذي قدم مشروع القانون، بأنه أمر بالغ الأهمية للأمن القومي، حيث يتم استيراد معظم الرقائق من الخارج، خاصة من آسيا، حيث توجد مخاطر جيوسياسية. وتحدث الرئيس بايدن عن أن مثل هذه القوانين ستتيح للولايات المتحدة ليس فقط التنافس مع الصين في المستقبل، لكن لقيادة العالم والفوز بالمنافسة الاقتصادية للقرن الحادي والعشرين. وأشار بايدن إلى أن بلاده «بحاجة إلى رقائق لأنظمة الأسلحة الرئيسية مثل صواريخ جافلين»، وأضاف أنه «لا عجب في أن الحزب الشيوعي الصيني ضغط بشكل فعال على رجال الأعمال الأمريكيين للوقوف ضد مشروع القانون». واعتبر البيت الأبيض أن تمرير مشروع القانون يحفّز استثمارات جديدة في الرقائق، مشيراً إلى أن شركة «كوالكوم» وافقت، على شراء رقائق إضافية لأشباه الموصلات بقيمة 4.2 مليار دولار، من مصنع «GFS.O New York» التابع لشركة «Global Foundries»، ما يرفع إجمالي التزاماتها إلى مشتريات بقيمة 7.4 مليار دولار، حتى عام 2028. وأضاف البيت الأبيض أن شركة «ما يكرون» ستعلن عن استثمار بقيمة 40 مليار دولار في تصنيع شرائح الذاكرة، ما سيعزّز حصتها في السوق الأمريكية من 2% إلى 10%. وذكرت «ما يكرون» أنها ستستخدم المنح والائتمانات الحكومية «المتوقعة»، لمساعدتها على استثمار 40 مليار دولار بحلول نهاية العقد، من أجل تأسيس قدرة لتصنيع أشباه الموصلات في الولايات المتحدة. ورجّحت الشركة أن تبدأ بإنتاج الرقائق بعد عام 2025، مشيرة إلى أنها ستوجِد 40 ألف وظيفة.

في 15 مارس، كشفت شركة «إنتل» عن خطط بناء مصنع عملاق بقيمة تبلغ 17 مليار يورو (18.7 مليار دولار) في مدينة ماغديبورغ، الواقعة في ألمانيا الشرقية؛ إذ سيجري تصنيع أحدث أشباه الموصلات، وأضافت الشركة بذلك إلى المصنعين الأمريكيين الجدد الذين أعلنت عنهما، في أريزونا وأوهايو. وهذه المصانع هي جزء من خطة شركة «انتل» إحدى أكبر شركات التكنولوجيا في العالم التي تهدف إلى نزع السيطرة على الإنتاج من آسيا، ومعالجة النقص العالمي في الرقائق، الذي تفاقم خلال جائحة «كوفيد-19» وازداد سوءاً مرة أخرى في أعقاب الأزمة الأوكرانية الروسية.

كما قررت الشركة الكورية العملاقة «سام سونج» للإلكترونيات استثمار 17 مليار دولار في بناء مصنع جديد لإنتاج أشباه الموصلات، أو ما يسمى ب «المسبك»، وذلك في بلدة «تايلور» بولاية تكساس الأمريكية. للانضمام إلى عملية تشكيل سلسلة توريد أشباه الموصلات بقيادة الولايات المتحدة، وسينتج مسبك سام سونغ الجديد في تايلور أشباه موصلات الأنظمة المتقدمة لشبكات الجيل الخامس، والحوسبة عالية الأداء، والذكاء الاصطناعي، و«الميتافيرس». بعد وادي السيليكون، أصبحت تكساس وجهة رائدة للعديد من الشركات الأمريكية. قرار سام سونغ باختيار تايلور موقعاً لاستثمارها البالغ 17 مليار دولار تأثر بشكل كبير بوعد المدينة بمنح حوافز لتخفيض الضرائب بقيمة 292 مليون دولار. وبمجرد بدء تشغيل مسبك تايلور في النصف الثاني من عام 2024 كما هو مخطط له، من المتوقع أن تتغير خريطة سوق مسابك أشباه الموصلات العالمية.

*كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yc7fsmtd

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"