سؤال الهُوية الوطنية

00:44 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.يوسف الحسن

آن الأوان، بعد مرور عقد ونصف العقد، على طرح سؤال الهوية الوطنية في «عام الهوية الوطنية 2008»، أن نتجاوز الحالة الوجدانية والعاطفية في طرح السؤال، إلى حالة الوعي العقلي والعملي، «والتحديد الواضح لمفهوم الهوية الوطنية»، (خطاب الشيخ نهيان بن مبارك وزير التسامح والتعايش في مؤتمر صندوق الوطن قبل أيام في أبوظبي).

ويتطلب الوعي الجمعي بالهوية، مقاربات معرفية وثقافية وتاريخية، في طياتها عناصر ثابتة وأخرى متجددة، ومراجعة موضوعية للسياسات التي تعزز الوعي بالهوية، وتلك التي تؤثر فيه سلباً، أو تعرض الهوية لفقدان صفاتها وعناصرها الأصلية.

آن الأوان لتحديد عناصر الهُوية الأساسية الثابتة، والمتمثلة باللغة العربية، والدين، والولاء والانتماء للوطن (أرضاً واتحاداً وسيادةً ورموزاً)، وموروثات وأنساق قيم إنسانية، لاحمة لمكونات الهوية الوطنية (مواطَنة متكافئة، تسامح، خير عام، مشاركة مسؤولة، إبداع، تعايش وتفاعل إيجابي مع الآخر)، وذاكرة تاريخية مشتركة (جغرافيا، وتنقل وهجرات، وعلاقات في المجال الحيوي الخليجي والعربي، وصراعات مع الغزاة منذ القرن الخامس عشر، وتفاعلات أصحاب الهوية مع القادم المقيم والعابر...إلخ).

يُعطي عنصر التاريخ المشترك، للحاضر دلالاته ومعانيه، ويعمق الثقة بالنفس، ويعزز الانسجام الوجداني لأبناء الوطن، والديمومة الزمنية دون انقطاع، كما أن فقدان اللغة الأم، هو هوية مقضومة، وفيها يفقد الإنسان المشْيتَين. فلا هو غراب يعرف ولا حمامة يعرف، ويحرم نفسه من روافد تاريخه وحضارته العربية والإسلامية. ويزداد الأمر سوءاً حينما يكتشف الفاقد للغته الأم، أنّ تمكّنه من اللغة الأجنبية، هو مجرد إشباع كاذب، يصلح للحديث في الأسواق والسياحة، ولا يصلح للعلم والثقافة.

إن الهُوية الوطنية، مسألة أساسية للمشروع الحضاري المستقبلي للدولة، ومن دونها يفقد المشروع جوهره، وعلى سبيل المثال، فإن فرنسا، حينما تخوفت من مدى قدرة الهوية الثقافية الفرنسية على الصمود في وجه الاختراق الثقافي والإعلامي الأجنبي، عارضت اتفاقيات (إلجات)، حمايةً لهويتها الثقافية، باعتبار أن هذه الهوية لها صلة أساسية بنمط حياة الفرنسيين، وسلوكهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغتهم وخياراتهم السياسية والاقتصادية. وكذلك فعلت اليابان، حينما حرصت على استمرار تدريس اللغة اليابانية المعقدة، كأداة تفكير ووعاء ثقافتها، وبها أنتجت كل صناعاتها وإبداعاتها.

إن مجتمع الإمارات، كغيره من مجتمعات الخليج العربية، قد تعرّض لاختبارات عسيرة، وتحولات عميقة، اجتماعياً وثقافياً وسكانياً واقتصادياً، ولأنماط إنمائية سريعة وواسعة، وبخاصة في أزمنة العولمة، فضلاً عن تأثيرات وسطوة الجغرافيا على مكان الهُوية، مع توفر إغراءات الجذب لا الطرد. إن جميع هذه العوامل تستثير سؤال الهُوية الوطنية، وتكشف عن حاجة ماسة استراتيجية، وأمن وطني، لإحداث توازن داخل الوعي الفردي والجمعي، وبما يعزز الدفاعات الذاتية، و

باعتبار أن الهُوية هي الخصائص والسمات التي يتميز بها شعب ما، وهي التي تُترجم روح الانتماء، ومن دونها تفقد الأمم بوصلتها وتماسكها وحتى وجودها، بخاصة حينما يكون هناك من يدعو إلى (هوية معولمة)، بمنتجاتها الثقافية المهيمنة، وبآلياتها الخارقة الحديثة، والتي تأتي مقطوعة الصلة بمرجعيات المجتمع الثقافية والاجتماعية والتاريخية والقومية والروحية ورموزه، أو هناك من يرى، أن الحداثة (على إطلاقها) وأنموذج اللبرلة، بعجرها وبجرها، هي العناصر الموضة، الضرورية للهوية الوطنية، وأن ذاكرة الإماراتيين الجمعية، لا تتعدى لحظة الازدهار في العقود الأخيرة، ويرفد مثل هذه الأفكار ويغذيها، ضعف قدرات مؤسسات التنشئة الثقافية والاجتماعية التقليدية (الأسرة والمدرسة) على حماية الهُوية الوطنية.

إن التمسك بالهوية الوطنية وتحصينها، لا يعني الانغلاق، وحبس الهوية من التفاعل الدينامي، في ظل التدفق المعرفي والثقافي الجاري في العالم، وانتشار الأفكار والنماذج والمعاني بلا قيود. إنما يعني تأكيد وعي الإنسان بذاته وانتمائه إلى جماعة بشرية، لها سماتها الثقافية، وفي إطار الانتماء الإنساني العام، وتتطور بالتفاعل والوعي والإبداع والإرادة الحرة، وحينما تتمتع الهوية بالفاعلية تكون أكثر ثقة بالنفس، وأكثر استعداداً للانفتاح والتثاقف والتأثير والتأثر.

إن جهود تعزيز الهُوية الوطنية، لا ينبغي أن تظل في إطار التنظير والشعارات والموسمية، وإنما نحتاج لتجاوز ذلك، واجتراح مبادرات اجتماعية وتعليمية، وبرامج ومشروعات وسياسات في كل القطاعات، بما فيها نمط التنمية، وكتابة التاريخ، وبما يعزز الثقافة البانية للهوية الوطنية، وهي الثقافة التي أصبحت اليوم من الأسلحة الثقيلة في الحروب الناعمة، ويواجه كل التحديات والمخاطر التي تؤثر في عناصرها الثابتة.

نعم.. إن سؤال الهوية يقع في قلب الصراع الهادف إلى صياغة تعريف نهائي للإنسان، وقد انشغل به الفكر الإنساني منذ بدء التفكير بالذات والجوهر والكينونة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ykm96bjk

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"