الدولة وحدود الهيمنة

00:56 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

شهد العالم في العقود الأخيرة تغيّرات مفاهيمية عدة، طالت مفهوم الدولة كجهاز مؤسّسي، وفي مقدّمتها مفهوم الحوكمة، بوصفه نقلة حديثة لمفهوم أسبق هو الرشاد أو الترشيد، كما أخذ مفهوم التنمية نفسه يتوسّع ليشمل حقولاً لم يكن مألوفاً مقاربتها تنموياً، مثل قطاع الصحة، حيث إن خطط المؤسسات الصحية لم تعد تقف عند حدود الاستجابة، بل تعدّتها إلى المسؤولية عن جودة الحياة البيولوجية للمواطنين، وكل هذه التحوّلات المفاهيمية المتعلقة بالجهاز المؤسّسي للدولة، لا تنفصل، بل مرتبطة عضوياً بالمفهوم الأمّ المجرّد، أي الدولة.

بقدر ما يمتلك مفهوم الدولة حالة من الوضوح، التي لا تبدو أنها بحاجة إلى تفسير، فمهما كان المواطنون بمنأى عن التماس مع الأجهزة المؤسّساتية للدولة، لكن وجودهم، كما يعرّفونه هم أنفسهم، مستمد في شرعيته من الدولة التي ينتمون إليها، لكن هذه الحالة من الوضوح هي بحدّ ذاتها إشكالية، فارتباطنا كمواطنين بالدولة، مطلق دولة، يجعل من حياتنا كلها رهن الدولة نفسها، ابتداءً من تاريخ تشكّلها، وجغرافيتها، ومستوى تطورها الاقتصادي، ومدى امتلاكها أو فقدانها للثروات الباطنية، وطبيعة العقد الاجتماعي، ونظام الحكم، وغيرها من القضايا الحاكمة للعلاقة بين المواطن والدولة، بمختلف تجليّاتها.

المجتمع بهذا المعنى هو مجال وحد هيمنة الدولة، لكن هذه الحقيقة الساطعة، وعلى بساطتها أيضاً، لا تقول لنا أي شيء عن ماهية الدولة، فالدولة في سياق تحوّلاتها تعكس مستويات التطور الاقتصادية والاجتماعية، بما فيها طبيعة النظرة العامة للدولة نفسها، وهي نظرة تختلف من حالة إلى أخرى، بحسب صيرورة التاريخ المؤسسة لشكل الدولة، والتي اكتسبت فيها الدولة معناها أو معانيها.

في كثير من دول العالم، خصوصاً في الشرق الأوسط، تشكّل الدولة مصدر خوف كبير للمواطنين، وهو ما تعكسه علاقة المواطن بالممثلين الرسميين للدولة، والتي تتّسم بالانفصال بين مستويين اجتماعيين نوعيين، وهذه العلاقة لا يحوز فيها المواطن أية إمكانية لمساءلة السلطة، بل حتى يغيب من ذهنه وجود هذه الإمكانية من الأساس، أي المساءلة، فالدولة وممثلي مؤسساتها، من وجهة نظر المواطن العادي، ينتمون إلى عالم متعالٍ قانونياً وسلطوياً، وأقصى ما يتمناه ربما هو ألا يضطر لإقامة علاقة معهم، ولو كان الأمر يتعلق بمعاملة بسيطة في دائرة خدمية للحي الذي يسكن فيه.

هذه الحالة من التعالي بين الحاكم والمحكوم، تعكس طور الدولة الهوبزية، نسبة إلى الفيلسوف وعالم الرياضيات البريطاني توماس هوبز (1588-1679)، حيث تتمتّع فيه الدولة بالهيمنة المطلقة، وهي بهذا المعنى، أي الدولة، تصبح توأم السلطة، التي تتّسم بصفات مطلقة، لكن هذا التعريف الهوبزي للدولة/ السلطة، هو تعبير عن لحظة تاريخية محدّدة في سياق الدولة، أي ما قبل القطع ما بين الدولة كامتداد للحكم، والدولة الحديثة المشكّلة تعاقدياً، والتي تصبح مجالاً يتجاوز حدود التعبيرات المؤسّساتية إلى تعبير عن المثل في أسمى حالاتها، أي بوصفها مجال العقل والحرية والعدالة.

هيمنة الدولة مرتبطة بشكلٍ رئيسي بمفاهيم ضرورية لجعلها مفهومة ومقبولة، فهذه الهيمنة هي شكل من أشكال السيادة، فالدولة وحدها لها حقّ احتكار العنف، وتفريطها في هذا الحقّ هو مقدمة لانهيار الدولة نفسها، لكن هذه السيادة ليست مفصولة عن مبدأ المشروعية، الذي يشكّل حدّاً على عمليات الإخضاع والتبعية، إذ لا يكفي أن يكون النظام السياسي قادراً على الإخضاع ليكون مشروعاً.

حدود هيمنة الدولة لها مصدران أساسيان عامّان، الأول مستوى الشرعية الاجتماعية، وهو مرتبط بقدرتها على تحقيق مصالح أوسع الفئات الاجتماعية، مع الأخذ بالحسبان الفئات الأكثر فقراً وتهميشاً، والثاني عدم انزلاقها إلى ما دون الدولة، كأن تتخلى عن احتكارها للقوة لفئات من خارج الدولة، من أحزاب وميليشيات، أو أن تتخلى عن مصدر مشروعيتها الاجتماعي، لمصلحة شرعية من الخارج، من حلفاء وداعمين خارجيين، أو أن تصبح الأجهزة التنفيذية فوق القوانين بشكل فاضح وواسع النطاق.

إن ضعف مستوى تحقّق هذين المصدرين، أي في حال وجودهما، لكن مع تقلّص مساحة فاعليتهما، تصبح الدولة نفسها مصدر إعاقة للمجتمع والدولة معاً، وهي لئن كانت قادرة في هذه الحال على تحقيق مستوى ظاهري من الاستقرار، فإن هذا الاستقرار بحدّ ذاته هو حالة ركود وعطالة، أي إنه حالة انحطاط موصوفة معيارياً، بأدوات قابلة للقياس، لانحدارها التاريخي، قياساً بفترات سابقة، أو قياساً بتطوّر الدول في إقليمها أو في أماكن أخرى من العالم، وغالباً، يمنحنا الدرس التاريخي إمكانية استنتاج دخول هكذا دول في حالة استنقاع طويلة، أو دخولها حيّز الدول الفاشلة، وربما تشظيها الكياني والتاريخي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p8z52ps

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"