فخ الديون الصينية في إفريقيا

23:22 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد *

بعد أن تحولت الصين في العشر سنوات الأخيرة إلى خيار بديل لصندوق النقد الدولي ومؤسسات التمويل الغربية، لتمويل مشاريع التنمية في القارة الإفريقية (والبلدان النامية بصورة عامة)، بدأ الإعلام الغربي السائد حملة تشهير ضد القروض الصينية المقدمة للبلدان النامية الإفريقية، ناعتاً إياها بفخ الديون الصينة “Chinese debt trap in Africa”. فالدول الغربية تتهم الصين بأنها تكبل الدول الإفريقية بديون لا طاقة لها على سدادها ما يضطر هذه الدول للتنازل عن ملكية بعض أصولها ومرافق بنيتها الأساسية لصالح الصين، مقابل إعفائها من تلك الديون.
وبفحص هذه الاتهامات للوقوف على حقيقة الموقف ذي الصلة، بالاستعانة بآخر بيانات الجهات المعنية بمتابعة مشكلة الديون الخارجية للبلدان النامية يتضح، كما تشير بيانات منظمة «عدالة الديون (Debt Justice)، وهي مؤسسة خيرية مقرها لندن، كانت قد تأسست عام 1969، بهدف العمل على تسوية مشكلة هذه الديون، بما في ذلك إلغاؤها أو تخفيفها أو إعادة جدولتها – إلى أن نسبة ديون المقرضين الصينيين لبلدان القارة الإفريقية بلغت حتى يوليو 2022، 12%، بينما بلغت نسبة قروض مؤسسات التمويل الغربية الخاصة لبلدان القارة، نسبة 35%، ونسبة قروض المؤسسات الدولية متعددة الأطراف، 39%. وبالنسبة للفوائد المفروضة على هذه القروض، كانت نسبة الفائدة الصينية 2.7%، مقارنة مع 5% تفرضها مؤسسات التمويل الغربية على هذه القروض.
كان الجغرافي الهندي براهما تشيلاني، قد اخترع مصطلح «دبلوماسية فخ الديون» في عام 2017، حيث زعم أن الصين تقرض لانتزاع تنازلات اقتصادية أو سياسية عندما لا تتمكن الدولة المدينة من الوفاء بالتزامات سداد القرض، وهو ما يثقل كاهل البلدان الفقيرة بالقروض، ويجعلها في نهاية المطاف خاضعة. وسرعان ما تلقفت المراكز البحثية الحكومية وشبه الحكومية الغربية هذه «الهدية» لترويجها وتضخيمها لإضفاء الطابع الشيطاني على السياسة الاقتصادية الخارجية الصينية، كما فعل على سبيل المثال لا الحصر، مركز بلفر بجامعة هارفارد الذي قرن القروض الصينية بما أسماه «المصالح الجيوستراتيجية الشائنة للقوة الآسيوية الصاعدة». مع ذلك، فإن بعض هذه المراكز، مثل مؤسسة «تشاتام هاوس» في لندن، لم تجد أدلة تدعم تلك المزاعم. كما أن دراسة أجراها معهد الأبحاث العالمي “AidData”، ومقره أمريكا، على 13427 مشروعاً نفذتها الصين في 165 دولة على مدار 18 عاماً، لم يتمكن من العثور على حالة واحدة قامت فيها الصين بالحجز على أصل أجنبي بعد التخلف عن سداد القرض. ولعقد من الزمان ظهرت الصين كخيار تمويل جديد لمشاريع التنمية في الدول النامية، فساعدت على سد الفجوة الهائلة التي خلفها تراجع خطوط التمويل الحكومية الغربية لصالح تمويل المؤسسات الخاصة الغربية. ويتجاهل الإعلام الغربي السائد أن معظم الإقراض الصيني مخصص للبنية التحتية ومشاريع الاستثمار الإنتاجية في الدول النامية، وليس لقروض السياسة التي يحددها المانحون.
قبالة «فخ الديون الصينية» في إفريقيا، هناك في الجهة المقابلة ما يسمى «العبودية الاقتصادية» (Economic slavery)، في إشارة إلى قيام فرنسا بجباية 440 مليار يورو سنوياً من مستعمراتها السابقة في إفريقيا، عبر آلية فرنك الجماعة المالية لإفريقيا، أو فرنك المستعمرات الفرنسية في إفريقيا، كما كان يسمى في الأصل (Franc of the Financial Community of Africa, originally Franc of the French Colonies in Africa). وهي عملة مشتركة ل 14 دولة إفريقية أعضاء في منطقة الفرنك أنشأها الفرنسيون عام 1945، تُلزِم الدول الإفريقية بتخزين حوالي 85% من احتياطياتها من العملات الأجنبية في بنك فرنسا في باريس، ما يضعها تحت السيطرة المباشرة للخزانة الفرنسية، بما يشمل ذلك عدم استطاعتها الوصول إلى هذا الجزء من احتياطياتها. ولأن نسبة ال15% المتبقية من الاحتياطيات غير كافية لمقابلة احتياجاتها الإنفاقية، الجارية والاستثمارية، فهي مضطرة لاقتراض أموال إضافية من الخزانة الفرنسية بأسعار السوق. لذلك تسيطر باريس، منذ عام 1961، على جميع احتياطيات النقد الأجنبي في بنين وبوركينا فاسو وغينيا بيساو وكوت ديفوار ومالي والنيجر والسنغال وتوغو والكاميرون وجمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد والكونغو وغينيا الاستوائية والغابون. كما تتمتع فرنسا بحق الشفعة في جميع الموارد الطبيعية التي تُكتشف في البلدان الإفريقية، ولشركاتها الأولوية في تعهيد العقود. لذلك، فإن معظم الأصول في مجالات التوريد والتمويل والنقل والطاقة والزراعة هي في أيدي الشركات الفرنسية. ويتعين على النخب الحاكمة في هذه الدول أن تفي بهذه المطالب من دون أن تتوفر على أي خيار آخر. والقادة الأفارقة الذين يرفضون الامتثال لهذه المطالب، مهددون إما بالاغتيال أو الإطاحة بحكوماتهم. وعلى مدى السنوات الخمسين ونيف الماضية، كان هناك 67 انقلاباً في 26 دولة إفريقية، 16 من هذه البلدان ال 26 كانت مستعمرات فرنسية سابقة.
* خبير اقتصادي بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/57f3nav6

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"