نحو وعي منظوماتي للسلطة

00:24 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

تحظى مسألة السلطة، وستبقى تحظى، باهتمام كبير، فكرياً وجماهيرياً، فمنذ الفلسفة اليونانية وإلى اليوم، بقيت السلطة المحور الأساسي في الفكر السياسي؛ بل إن القسم الأكبر من الفكر السياسي، بما فيه الفكر الأخلاقي، يتأسس ويدور حول كيفية تشكّل السلطة ودورها، نجاحها أو فسادها، وكان لتطوّر التاريخ الإنساني، الاقتصادي/ الاجتماعي، وتطوّر العلوم، والأفكار، دورهم في حدوث تحوّلات كبيرة ورئيسية حول مفهوم السلطة، فقد قضت الدولة الحديثة على وجود مجتمعات خارج دائرتها، أي دائرة السلطة السياسية، كما أصبح التنظير للسلطة ظاهرة ملازمة للدولة الحديثة.

النظرة الأكثر شيوعاً وشعبوية حول السلطة، هي تصوّر السلطة بناءً هرمياً، وهذه النظرة، ليست خاطئة كلياً، أقله بالنسبة للوعي الأيديولوجي، الذي يرى السلطة بناء على تصوّر ديني، يضع المطلق أولاً، ومن ثم كل شيء بعده، وهذه المحاكاة، كانت حجر الأساس في إحدى أشهر نظريات علم الاجتماع السياسي، المؤسّسة فعلياً لتطوّر هذا العلم في القرون القليلة الماضية، وهي النظرية الهوبزية، نسبة لعالم الرياضيات والفيلسوف البريطاني توماس هوبز (1588-1679)، الذي يجعل من العقد الاجتماعي رهناً بمعادلة، أحد طرفيها الملك/ المطلق، وطرفها الثاني الشعب، لكن هذه المعادلة، وعلى الرغم من أهميتها في التاريخ السياسي، لا تقدم وعياً بالديناميات التي تتشكّل فيها السلطة، أو حتى بالطرق البنيوية التي تمارس فيها هذه السلطة سلطويتها، إلا بقدر محدود بالتجربة التاريخية التي عرفتها البشرية حتى القرن السابع عشر.

النظرة الثانية حول السلطة هي النظرة الآلية الديكارتية، نسبة إلى عالم الرياضيات والفيزياء والفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650)، ففي المنهج التحليلي الحديث الذي أسّسه ديكارت، فإن فهم الكل، لا يتم إلا عبر تقسيمه لأجزاء/ وحدات، ويمكن عبر فهم خصائص الأجزاء فهم خصائص الكل، وبناء على المنهج الديكارتي، فإن وعي السلطة ممكن فقط عبر تحليلها إلى وحدات أصغر، والكشف عن خصائص الوحدات الصغيرة، الذي يحيلنا بالتالي إلى وعي الكل/ السلطة، وهذا الربط الميكانيكي، هو رابط ناتج عن فهم آلي للظاهرة الاجتماعية، يجعل من الكل، بشكل من الأشكال، تجميعاً للأجزاء التي يتألف منها.

وإذا كان الفهمان، الشعبوي/ الشائع، والتحليلي/ الميكانيكي، يمثلان تيارين، ينتمي الأول بشكل كبير إلى المثالية، والثاني تطغى عليه المادية، فإنهما سوية ينتميان إلى الوعي المانوي، الذي يقسم العالم إلى ضفتين، ويعزل بينهما بطريقة أو بأخرى، لكن الأسوأ معرفياً في هاتين النظرتين هو أنه يبعدنا فعلياً عن أية إمكانية فعلية لمدى الاستقلال أو الخصوصية التي يتمتع بها مفهوم السلطة، أو الخصائص المستقلة لها، والديناميات التي تنتجها، عبر العمل إلى جانبها، أو من خلال العمل جزءاً منها، أو إعاقتها، نسبياً وجزئياً، من أجل تغيير مساراتها، أو حتى التمرد عليها.

أحدث التفكير المنظوماتي، المولود في خضم الأفكار الجديدة التي طرحها علماء الجيولوجيا العضوية في النصف الأول من القرن العشرين، وقد أحدثت المنظوماتية ثورة في التفكير؛ حيث تعطي الأهمية للسياق والعلاقات والترابط بين الأجزاء، أكثر مما تولي خصائص الأجزاء نفسها أهمية كبيرة، ويمكن القول إن التفكير المنظوماتي هو تفكير سياقي، وبالتالي، فإن الظواهر الاجتماعية، ومنها ظاهرة السلطة، يمكن فهمها من خلال السياق، وليس من خلال تحليل كل واحدة منها على حدة.

التفكير بالسلطة على نحو منظوماتي، يجعل من السلطة، مطلق سلطة، وخصوصاً السلطة السياسية، السبب المباشر والأساسي في انتظام الحياة البشرية، ويجعل من التفكير في طبيعة السلطة، وآليات تشكّلها، ومدخلات إنتاجها، وممكنات الواقع الموجودة فيه، والسياق التفاعلي لهذه المكوّنات، المدخل/ المفتاح لوعي الأدوار التي يمكن أن تقوم بها؛ بل والتنبؤ بطبيعة استجابتها للتحديات الملقاة على عاتقها، أو حتى تلك التي يمكن أن تواجهها من الناحية الاحتمالية.

تمنح المنظوماتية المحلل والباحث والممارس للسلطة؛ بل وحتى المعارض لها، التخلص من التفكير المانوي، فهي لا تجعل من السلطة مقدساً متعالياً، ولا تحوّلها لآلية ميكانيكية؛ بل تضعها في سياق الممارسة الإنسانية، وتقربها من الجدل، وتجعل منها نتيجة تفاعل ونمو في سياق تاريخي، يمكن فهمه وتحليل علاقاته، كما يمكن العمل على تطويره، وتحسين شروط إنتاجه، وإدراك متى تكون المساهمة في السلطة منتجة، ومتى تكون مقاومتها ضرورة.

إن التقدم نحو تبني فهم منظوماتي للسلطة، يعني من الناحية العملية، الإسهام في بناء واقع، تصبح فيها السلطة السياسية ميداناً للتفاوض، من أجل إعادة إنتاج مستمرة لسياقات المجتمع، وبناء علاقات صحية بين مواطنيه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/uj9zhebv

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"