العودة إلى الإنسان

01:15 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. عبدالله السويجي

الجزم في القول يعكس المعرفة الأكيدة، المبنيّة على المصادر الموثوقة والبحث العلمي الجاد، ولا يجزم بقوله سوى العالم المطّلع الخبير في مجاله، الذي كوّن معرفةً تراكمية أهّلته كي يفتي في قضايا اختصاصه، أو التوصّل إلى نتائج قيّمة، تتحوّل مع مر الزمن إلى مرجع أو مراجع، يستشهد بها العامة.

كان الكتاب، قبل ثورة المعلومات والاتصالات، وبعدها ثورة التكنولوجيا والتقنيات، يشكّل المصدر الوحيد للحصول على المعلومة، أو استقاء المعرفة، لذلك كانت المكتبات تغص بالرواد والمراجعين من تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات والتعليم العالي. وبعد انتشار الشبكة العالمية للمعلومات (الإنترنت)، تراجع ارتياد المكتبات، وانحسر المتعاملون بالكتب، حتى تحوّل بعضها إلى معالم ثقافية للزيارة فقط. وأصبح الإنترنت هو المصدر الأكثر رواجاً، بسبب توفّره في معظم البيوت وأماكن العمل والمؤسسات التعليمية، وسهولة الوصول إليه، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وتحوّل الصحف والمجلات إلى النشر الإلكتروني، وزيادة أعداد المنصّات والمدوّنات، تناقص الاعتماد على الكتاب بشكل كبير. وشمل ذلك الباحثين والسياسيين والاقتصاديين، بل وحتى المخطّطين الاستراتيجيين ومختلف المجالات المعرفية والوظيفية.

المصداقية والموثوقية في الكتب الورقية كانت معياراً رئيسياً، وعلى الرغم من ذلك، كانت تظهر بين الحين والآخر مؤلفات فاقدة المصداقية، لم يبذل أصحابها الجهد الكافي، وكانت، من وجهة نظر الجادّين، لا تساوي الحبر الذي طُبعت به. والمعيار ذاته انتقل في عصر ثورة المعلومات والتكنولوجيا والاتصال، لكن مع صعوبة التحقّق من المصداقية، لذلك، لا يقبل معظم المشرفين على الدراسات العليا المصادر الإلكترونية، وقد لجأت المؤسسات التعليمية إلى تحديد المصادر الإلكترونية الموثوقة، لكن ذلك لم يوقف السطو على المعلومة أو المادة المتاحة للجميع.

في أيامنا هذه، يتحدثون عن تطبيقات تستخدم الذكاء الاصطناعي، بإمكانها كتابة مقالات، وزوايا، وموضوعات إنشائية وخطابات سياسية متعدّدة الأغراض، بمجرد تغذيتها بكلمات مفتاحية. وخطورة هذه التطبيقات تكمن في قدرتها على كتابة موضوعات في شتى ميادين المعرفة، بأساليب جميلة، وبلغات مختلفة. وعلى الرغم من إنجازها العمل بالسرعة والدقة المقبولتين، إلا أنها تبقى في حاجة إلى المراجعة، التي عن طريقها يمكن اكتشاف أخطاء رئيسية ومهمة، وهي تشبه في ذلك برامج الترجمة الآلية، وبرامج التشكيل اللغوي الآلي، وإن كانت نسبة الأخطاء في البرامج التحريرية الآلية أقل بكثير من برامج الترجمة أو التشكيل. وقد صادف أنني اطلعت على نصوص مترجمة ومشكلة آلياً، ووجدت أخطاء تدعو للضحك. ورغم ذلك، نحن لا نهاجم استخدام الذكاء الاصطناعي، الذي أثبت نجاعته في الميادين العلمية الرقمية الحسابية، وفي المقابل يفشل حين يتعلق الأمر بمحتوى فكري ولغوي وفلسفي وديني وأدبي، وغيرها من العلوم الإنسانية.

نعلم أن عصرنا يتّسم بالسرعة، لكن يجب ألا يشمل هذا الإيقاع المؤسسة التعليمية، حيث الطالب غير صبور ويرغب في إنجاز عمله بالسرعة الممكنة، ويُسمحُ له باستخدام الآلات الحاسبة في الدروس الرياضية والحسابية وغيرها.

جميل أن نستفيد من إمكانيات العصر وفتوحاته العلمية، وجميل أن نتجاوز بعض أساليب التعليم التقليدية الموروثة، إذا ما توفّرت أساليب أخرى، ولكن ليس جميلاً أن نعوّد التلاميذ والطلبة على الكسل والاسترخاء، فهذا سيجعل عقولهم خامدة كسولة غير مبتكرة، وتتعامل مع الجاهز، وهنا تغيب روح الإنسان وأسلوبه ونكهة لغته، بل تتضرّر مشاعره.

أعتقد أنه يجب إنقاذ الإنسان من الآلة في المواضع التي يستطيع فيها الإبداع والتفوق والإنتاج، وأعتقد أنه يجب إعادة تقدير دور الكتاب الورقي ودور المكتبات في التحصيل المعرفي والعلمي، وأعتقد أيضاً أنه يجب منع استخدام الآلات الحاسبة في مراحل تعليمية معينة، ومنها التعليم الأساسي.

ليس أقدر من الإنسان على تقديم المحتوى ذي العلاقة بالقضايا الإنسانية. نحن في حاجة إلى العاطفة في الكثير من كتاباتنا، وهذه يعجز عنها الذكاء الاصطناعي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y6fa485d

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"