فطرة العنف

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

نقرأ كثيراً عن أحد الطلبة الذي أطلق النار داخل مدرسته فأصاب زميلاً، أو قتل معلماً، أو عن حوادث الطعن في أحد الميادين، أو إطلاق النار بصورة عشوائية في ميدان عام، ونقرأ عن جرائم القتلة المتسلسلين، وغالباً ما تدور هذه الحوادث في الولايات المتحدة الأمريكية، بل وتشكل ظاهرة انهمك العديد من الباحثين في دراستها وتحليلها.

في كتابه «القاتل بجوارك.. لماذا العقل مصمم للقتل؟»، يورد ديفيد باس إحصائية عن جرائم القتل في الولايات المتحدة، حيث شهد القرن العشرين مليون جريمة قتل هناك، والنسبة تتزايد في القرن الجديد، ومجموع ضحايا القتل يساوى عدد قتلى الحروب التي خاضتها أمريكا خلال القرن الماضي، ويخبرنا باس أننا إذا أضفنا عدد المفقودين في بعض جرائم القتل الغامضة، وعدد ضحايا جرائم الشروع في القتل، وعدد من أنقذتهم الشرطة في اللحظة الأخيرة من بين أيدي المجرمين، فسنجد أنفسنا أمام أضعاف الرقم السابق، أو أمام حالة ينتشر فيها العنف بوضوح، الأمر الذي دفع المؤلف، وعبر أكثر من 300 صفحة من الكتاب، الوصول إلى نتيجة صادمة، وإشكالية في الوقت نفسه، فالعنف، وبصفة خاصة القتل، فعل يرثه الإنسان في جيناته.. فطرة كامنة داخله، ولا يتأثر بالعوامل الثقافية والبيئية المحيطة به.

ولا يعدّ باس أول من وصل إلى تلك النتيجة، ولكن هناك عشرات الأدبيات التي تربط بين البشر والعنف، أو تؤكد أن الرغبة في القتل كامنة في ركن عميق ومنزوٍ داخل الإنسان، ولكن هل يمكن التسليم مع تلك الأدبيات بأن العنف، أو القتل فطرة أو غريزة؟ ألا يتأثر العنف بعشرات العوامل التي لا تبدأ من التربية، ولا تنتهي بالإعلام وشيوع ثقافة الصورة؟ وهل هناك خرائط للعنف يمكننا من خلالها القول إن نسبه تتزايد بصورة خاصة في هذه البقعة، أو تلك، من العالم؟ وهل يرتبط العنف بتطور التكنولوجيا؟ أسئلة كلها تحتاج إلى إجابات، فضلاً عن أن المعلومات شحيحة في ما يتعلق بالعنف، أو القتل في أماكن كثيرة.

يرتبط العنف أحياناً بروح الثقافة، ولنتذكر هنا ما قاله المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري يوماً، من أن الحداثة الغربية لا تعتبر الإنسان إلا مادة استعمالية لا قيمة لها، ومن هنا بالإمكان إزاحته، أو التخلص منه بمنتهى السهولة.

والعنف مدار واسع من الصعب حصره في جملة أو فقرة، وقد يكون في السلوكات وفي اللغة، وربما يكمن في الكتابة والأدب والفنون، وفي النظرات والتنمر على الآخرين، ولا حدود للعوامل التي تؤثر فيه، وهي عوامل ثقافية بالدرجة الأولى، يصنعها المجتمع على فترات طويلة، ونتيجة لظروف معقدة يتشابك فيها السياسي بالاقتصادي بالتاريخي، ولا علاقة لها بالجينات، من هنا لا يمكن القول إن القتل، بوصفه ذروة العنف، فطرة، هو في الحقيقة جريمة بشعة دانتها جميع الشرائع والقوانين، وعندما نردد أننا نولد وبداخلنا قاتل خفي فإننا نتنازل عن آدميتنا، وأهم ما يميزنا كبشر، وهو قدرتنا على الاختيار بين الخير والشر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3zuy2nu8

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"