اهتزاز الثقة بالنظام المصرفي الأمريكي

21:42 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد*

لا تكاد آلة طباعة النقود تتوقف عن العمل في الولايات المتحدة. الحكومة التي أدمنت تمويل عجز موازنتها بطباعة النقود، بضمان سداد مستنداتها التي تصدرها وزارة الخزانة الأمريكية وبيعها على الدول والمستثمرين، تسعى مجدداً، وبكل قوة، لدى الأعضاء الجمهوريين في مجلس النواب الواقع تحت سيطرتهم، من أجل فتح سقف الاستدانة المسموح به لها، كي تتمكن من معاودة طباعة الدولار من دون غطاء مادي حقيقي. وستبقى آلة طباعة الدولار تعمل عند الطلب إلى أن تتوقف الدول عن استخدام الدولار الأمريكي كعملة احتياطية. ومع شراء الدول والشركات لهذه السندات الحكومية الأمريكية، يتم تصدير التضخم الذي سينتج عن طباعة النقود بدون رصيد إلى الخارج.

لذلك، تتلاشى بشكل ملحوظ المقتنيات الأجنبية من سندات الخزانة الأمريكية؛ حيث عمد المستثمرون (دول وشركات)، منذ مدة للانسحاب من سوق السندات الحكومية الأمريكية. كما لوحظ في الآونة الأخيرة التلاشي السريع لثقة الناس في النظام المصرفي الأمريكي. لذلك تدرس الحكومة الأمريكية توسيع تسهيلات القروض الطارئة للبنوك. وقد بدأ ذلك بالفعل مع بنك «فيرست ريبابليك» بعد أن سحب المودعون ودائعهم، قبل أن يقوم 11 من كبرى البنوك الأمريكية، تحت ضغط كل من مجلس الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة والمؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع، بضخ 30 مليار دولار في خزانة البنك بصورة طارئة، شاركت فيها بنوك «Bank of America»، و«Citigroup»، و«JPMorgan Chase»، و«Wells Fargo»، و«BNY Mellon»، و«PNC Bank»، و«State Street»، و«Truist»، و«US Bank». لكن سهم البنك سرعان ما انهار مجدداً في 25 إبريل/نيسان 2023 بنسبة 30% بعد سحب 100 مليار دولار من ودائعه. وهو ما استفاد منه «JPMorgan» الذي استحوذ عليه في صفقة مشابهة لما حدث لبنك «واشنطن ميوتشوال» في عام 2008. فقد استولت سلطات التنظيم الحكومية الأمريكية على «First Republic Bank»، ووضعته تحت الحراسة القضائية للمؤسسة الفيدرالية لتأمين الودائع (Federal Deposit Insurance Corporation - DDIC)، وباعت أصوله إلى «JPMorgan Chase & Co» يوم الاثنين 1 أيار/مايو 2023، في صفقة لتجاوز مشكلة أكبر فشل بنك أمريكي منذ الأزمة المالية لعام 2008، ووقف فرار المودعين الأمريكيين بودائعهم من البنوك الصغيرة الأكثر تضرراً من أزمة الثقة في القطاع المصرفي في مارس/آذار الماضي، إلى البنوك العملاقة مثل «JPMorgan».

سوف نتذكر في هذا المقام، أنه في 25 سبتمبر/أيلول 2008، استولى مكتب الإشراف على التوفير في الولايات المتحدة (OTS)، وهي إدارة تابعة لوزارة الخزانة الأمريكية، على مصرف «واشنطن ميوتشوال» (Washington Mutual)، ووضعه تحت الحراسة القضائية للمؤسسة الفيدرالية لتأمين الودائع (FDIC). حدث ذلك إثر سحب 16.7 مليار دولار من ودائع البنك خلال 9 أيام (ما يصل إلى 9% من الودائع التي احتفظ بها البنك في 30 يونيو/حزيران 2008). قبل أن تعمد مؤسسة التأمين الفيدرالية لبيع الفروع المصرفية للبنك (ناقصاً الديون غير المضمونة ومطالبات حقوق الملكية) إلى «JPMorgan Chase» مقابل 1.9 مليار دولار.

الأمر كله يتعلق بالثقة. فعندما يفقد الناس الثقة في الدولار الأمريكي نتيجة لانكشاف حقيقة طباعة النقود بدون رصيد، باسم التيسير الكمي، سينتهي الأمر بتمظهر مفاعيل الأساسيات الاقتصادية.

وإلى أن يحدث ذلك، سنلحظ مزيداً من الانحسار في الحيازات الأجنبية لسندات الخزانة الأمريكية، وبالتالي ستتلاشى ثقة الناس في النظام المصرفي الأمريكي بسرعة أكبر. لذلك، يربط بعض المحللين الاقتصاديين بين هذا الوضع الحرج (الذي لم يثنِ الحكومة بالمناسبة عن مواصلة سياسة التمويل العجزي للإنفاق)، وبين اعتزام السلطات إطلاق العملة الرقمية للبنك المركزي (Central Bank Digital Currency - CBDC) في شهر يوليو/تموز المقبل، كشكل رقمي للدولار الأمريكي. وهي عملة تختلف عن الدولار الرقمي (Digital dollar) الذي يستخدمه ملايين الأمريكيين في دفع مطلوباتهم عبر بطاقات الدفع الدائنة أو المدينة، أو عبر تطبيقات الهاتف المحمول. ومثلها مثل الدولار الورقي، ستكون العملة الرقمية للبنك المركزي من مسؤولية مجلس الاحتياطي الفيدرالي. لكنها، على عكس الدولارات الورقية، لن توفر عملة ال «CBDC» حماية الخصوصية ولا سلاسة التدفق التي يوفرها النقد لمستخدمه والمستفيد النهائي منه.

*كاتب بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/nhfmwdfa

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"