تهشيش كيان الدولة الوطنية

00:55 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

على غير ضابط نظري - فلسفي وقانوني وسياسي - وقَعتِ الإفاضة والتنفيل في استيلاد حقوق جديدة - باسم حقوق الإنسان- والتبشير بها، بأفْعل وسائط الدعاية الإيديولوجية، وصولاً إلى استيلاد رأي عام حامل للفكرة يُسْتَقْوى به وبمطالبه لإملائها على دول العالم وإقرارها بتشريعات دولية ملزِمة. ولقد يبلغ الإلزام هذا حداً يجعل من التحلل من الالتزام بأحكام ذلك القانون مسْلكاً محفوفاً بالمخاطر قد يرتّب على مرتكبه احتساباً شديداً: سياسياً واقتصادياً وربما عسكرياً، أو عقاباً غيرَ ظاهر البصمات من قبيل تفجير تناقضات داخله الاجتماعية والسياسية. وما أكثر دول العالم التي كانت عرضة لهذيْن الضربين من العقاب، أو لأحدهما، في هذه الثلاثين عاماً العجاف من سطوة عقيدة العولمة النيوليبرالية.

  ولقد قاد فيْض الاستيلاد ذاك لحقوق من أخرى، في جملة ما قاد إليه، إلى تزوير معنى المواطنة ومضمونها بمقدار ما قاد بالموازاة، إلى إبطال مبدأ السيادة الوطنية وحُرمتها، وتعطيل مفاعيله، إنْ لم يكن قد أتى على حيّزات من تلك السيادة بمعاول الهدم. ولقد كان مبدأ السيادة هذا قد تلقى ضربةً موجعة، قبل ذلك؛ هي التي سددتْها له العولمة في تَبَدياتها الاقتصادية والتجارية والمالية والثقافية والقيمية، وها هو يتلقى، اليوم، نكسةً جديدة قد تكون أشد وطأة من ذي قبل. وهي، هذه المرة، نكسة سياسية وتأتيه من طريق الطعن على سيادة الدولة الوطنية على مواطنيها، والطعن على شرعية وَلايتها القانونية عليها، مقترنيْن بالضغط على منظوماتها التشريعية الوطنية قصد التّكيف والتكييف من طريق استدخال تشريعات دولية فيها لا تعني، في المطاف الأخير من زراعتها القيصرية فيها، غير نسْف نظام المواطنة نفسه والإتيان على رسْمه بالمحْو!

 حين يقع الضغط على دولة ما لتمتيع جماعة اجتماعية فرعية فيها، تنتمي إلى الجماعة الوطنية الواحدة العامة، بحقوق خاصة بها - فائضة عن حقوق المواطنة التي تتمتع بها أسوةً بغيرها- بدعوى أصولها الأقوامية، أو تميزها الطائفي أو المذهبي؛ وحين يبلغ الضغط ذاك حد إكراه الدولة على وجوب تخصيص بعضِ تلك الجماعات بحصة سياسية في مؤسسات الدولة، أو حمْلِها - بوسائل الابتزاز المختلفة - على إجراء هندسة سياسية أو دستورية للدولة والسلطة والنظام تُقْتَسم بموجبها سلطات الدولة إلى حصص تخُص بها جماعات (على منوال ما فعله «دستور بريمر» في العراق وسارت عليه النخب السياسية التي تنَفذت بعد الاحتلال)، ففي ذلك تفكيك للدولة الوطنية، وتقسيم للسلطة وتجزئة للشعب الواحد. بل فيه ما يزرع كل مقوّمات تنمية التناقضات والصراعات على السلطة في المجتمع، وصولاً إلى لحظة الاقتتال الأهلي عليها. هل من نسْفٍ للمواطَنة والدولة الوطنية والسيادة أكثر من هذا؟!

  المفارقة الصارخة في الموضوع أن المبدأ الذي تتضافر إرادات الهدم من أجل محْوِه - أعني مبدأ المواطنة - هو الذي كان عليه مبْنى النظام السياسي الحديث؛ وهو ثمرة هندسة سياسية رفيعة المكانة قامت على إنجازها ثوْرات فكرية واجتماعية وسياسية هائلة كانت أوروبا مسرحاً تاريخياً لها بين مطالع القرن السابع عشر ومنتصف القرن التاسع عشر. وما من شك يخامِرنا في أن مَن يُعالنون المواطنة والدولة الوطنية الاعتراض إنما يغترضون غرضاً سياسياً يؤدينا إلى غير ما أدتْنا إليه الدولة من مصائر. يكفينا أن نتأمل، جيداً، في ما يشهد عليه مبدأ المواطنة، اليوم، من معاناة وجودية جرّاء طفرة إيديولوجيا حقوق الإنسان؛ نعني الإنسان المنظور إليه من فقهاء الليبرالية الجديدة بوصفه عابراً للأوطان والدول؛ إذ إن ذلك الذي تشهد عليه من تأزمٍ يُظهِرنا أننا مقبلون فعلاً، على هندسة سياسية جديدة للعالم؛ للسلطة، للقانون وللنخب السياسية الحاكمة فيه.

  ستكون هذه الهندسة من طبيعة أنثروپو- سياسية؛ أي لن تكون مادتها من الشعوب والأمم، التي بها تتكوّن الدول؛ بل من الجماعات الأهلية والعصبيات والطوائف والمذاهب والأفراد المُفَرْدنون (Individualized)، أي المنظور إليهم في فردانيتهم المجردة من روابط الاجتماع كافة: من المجتمع والدولة والأمة. لا غرابة، إذن، في أن يزدهر - في هذه الأجواء - خطاب النهايات: نهاية الإيديولوجيا، نهاية التاريخ، نهاية الدولة (مع العولمة في طبعتها الأمريكية)، نهاية السيادة و آخرها، نهاية المجتمع.   

  والهندسة هذه، المحمولة على فكرة كونية الحقوق، تعيد النظر في مجمل المعمار الفكري والسياسي الذي قام، منذ نهاية القرن السادس عشر، مع نظرية السيادة مع جان بودان كما مع مبدأ الدولة الوطنية منذ معاهدة ويستفاليا.

abdelkeziz29Wgmail.com

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mphtmazw

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"