قمة جدّة.. وولادة «القارة الوسيطة»

00:14 صباحا
قراءة 3 دقائق

كمال بالهادي

تصطبغ قمة جدة بصبغة خاصة جداً؛ لأنها تأتي في سياق تحوّلات جذرية، لا في المنطقة فقط، بل في التوازنات السياسية الدولية. وربما تكون قرارات هذه القمة التي ستصدر من أكبر دولة عربية من حيث الوزن الاقتصادي أو السياسي دلالة على ما يمكن أن يلعبه العرب من أدوار في المستقبل.

 على المستوى السياسي، هناك متغير جذري يتعلق باستعادة سوريا مقعدها في الجامعة العربية، وهو القرار الذي تم اتخاذه مؤخراً في مجلس وزراء الخارجية العرب، وسيكون المشهد مشابهاً كثيراً لتلك المصالحة التاريخية التي شهدتها قمة بيروت في عام 2002 بين ولي العهد آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز ونائب الرئيس العراقي الأسبق عزت إبراهيم الدوري، وكان موقفاً اهتز له الوجدان العربي من المحيط إلى الخليج. وعودة سوريا بعد 12 سنة من القطيعة سيكون لها ذات الوقع لدى المواطن العربي، المرهق من النزاعات والصراعات الدموية، ومن مخلفات «ربيع الخراب»، الذي دمر الوطن العربي.

 وهناك حدث آخر لا يقل أهمية، وهو أن القمة تأتي في سياق مصالحة سعودية إيرانية، ما سيؤمّن حالة استقرار استراتيجي للمنطقة، ولذلك فإن هذا الاستقرار الاستراتيجي مهم للدول العربية كافة؛ لأنه سيسمح بالانفتاح الجماعي على إيران، وينشط مجالات كثيرة للتعاون مع هذه الدولة الإقليمية متى ظلت محترمة للخصوصيات العربية، وللأمن القومي العربي. ونحن على يقين أن هذه القمة أمام فرصة تاريخية لإعلان ميلاد «القارة الوسيطة»، كما كان يسميها نابليون بونابرت.

 ونحن على يقين أن الوطن العربي بمقدّراته البشرية والجغرافية والطبيعية، وموقعه الاستراتيجي، وبامتداده الإسلامي والإفريقي هو «القارة الوسيطة»، التي لا ترغب القوى الاستعمارية في تكتلها وتوحدها وتوسيع امتدادها الإسلامي والإفريقي؛ إذ سيكون بكل هذه المقدرات فاعلاً رئيسياً في التوازنات الدولية، بل مساهماً جاداً في بناء مستقبل الإنسانية. وهذا أمر بات ممكناً بالنظر إلى المتغيرات الدولية الحادثة التي تصعد فيها قوى وتتراجع أخرى إلى الوراء.

 ولعله من المناسب جداً أن ينطلق العرب دون أي تأخير في إعلان وجودهم كقوة سياسية عالمية لها القدرة على فرض مواقفها دون تدخل من أي قوى خارجية مثلما كان الأمر في العقود السابقة.

 إن عالم ما بعد وباء كورونا وحرب أوكرانيا، هو عالم مختلف؛ فالصراع على أشده بين قوة صاعدة وأخرى تصارع من أجل ألا تنزاح عن عرشها الذي جلست عليه لمدة عقود من الزمن. ومن المتوقع أن تنشغل القوتان بهذا الصراع لأمد غير معلوم حتى يستقر الأمر لإحداهما، وهذا الصراع سيمتد ضرورة لمنطقتنا؛ لأنه يمثل قلب الرحى في أي صراع دولي عبر تاريخ الإنسانية الطويل، ذلك أن القوة المسيطرة لن تستطيع التحكم في العالم ما لم تكن هذه المنطقة (القارة الوسيطة) تحت سيطرتها. 

 ولذلك فإنه آن الأوان بعد عقود من الخمول، والذهول، والانحدار أن يغير العرب استراتيجياتهم ويرسمون طريقاً جديداً يمنع أولاً أن تكون المنطقة العربية منطقة تطاحن بين القوى الكبرى كما جرت العادة، ويؤسس لشراكة بينية عربية في كافة المستويات من جهة، ويعقد تحالفات استراتيجية مستقبلية مع جميع القوى على أساس المصلحة العربية أولاً وأخيراً.

 إن هذا المنطق الوحدوي تفرضه المتغيرات الدولية؛ لأنهم جميعاً (الصين، وروسيا، والغرب) ينظرون إلى هذه المنطقة باعتبارها قارة وسيطة، لها من ممكنات الفعل ما يؤهلها لأن تكون لاعباً رئيسياً في اللعبة السياسية الدولية في المستقبل العاجل والآجل. ولأن المكان ذو رمزية تاريخية وهو الجزيرة العربية، فإنه من غير المستبعد أن تستعيد قمة جدة هذه الرمزية التاريخية، وأن ينطلق العرب منها مجدداً حاملين رسائل الخير والسلام والمحبة، ولكن السيادة أيضاً.

 إن العناوين السياسية لهذه القمة مهما كانت مهمة، فإنها لن تكون ذات نفع إن لم يتم رفدها بمشروع حضاري كامل يعيد للعرب وزنهم التاريخي ويمكّنهم من الاندماج في المتغيرات الدولية كفاعلين لا كمفعول بهم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/445fmpjf

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"