بين طرفة وبيتهوفن

00:04 صباحا
قراءة دقيقتين

قلت للقلم: هل لديك قراءة جديدة غير مألوفة لشيء تراثي صار في الأذهان راسخاً بصمغ مضاعف، وترى له وجهاً غير معهود؟ قال: ما رأيك في أن أمدّ لك جسراً بين طرفة بن العبد البكري، والسيمفونية التاسعة لبيتهوفن؟ قلت: إن من الجنون لفنوناً.
قال: يقول الفتى الجاهلي: «قد يبعث الأمر العظيمَ صغيرُهُ»، صحت به: ويحك، ما غربان البين هذه، فبقية البيت: «حتى تظلّ له الدماء تَصبّبُ»؟ ألا يكفينا دم الأخوين في السودان؟ ما هذا اللحن الكئيب في هذا المقام؟ ألم تجد غير الصبا لافتتاح العرض؟ قال: ليس لي شأن بالشطر الأخير. أردت أن أريك أن الموسيقيين العرب يقضون عشرات السنين وهم يشتغلون بالموسيقى، من دون أن يدركوا أهمّ أسرارها، وهي بناؤها وهندستها العِماريّة وتكامل بنيانها. أي أن تستطيع بلبنات صغيرة أن تقيم صرحاً عظيماً. خذ مثلاً: السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، هي أعظم عمل موسيقي في كل تراث الموسيقى العالمية. في إمكانك القول بكل حرية واعتداد إنها لا تعجبك، أو إنك تكاد تخرج من جلدك عند سماعها. هذا لا يغيّر مثقال ذرّة في التقويم الفنّي العلمي لهذا الأثر الفريد.
قلت: وما الأمر الصغير الذي تدّعي أنه بعث هذا العمل العظيم؟ قال: ردّد اللحن المميّز لهذه السيمفونية في قاعة ذهنك، فلو كنت لا تعرف حقيقة مسيرته العالمية، وكنت قد سمعته أوّل مرّة من فم مترنّم، لبدا لك كأنه لحن أنشودة أطفال. جرّب لتصدّق، لأنك بترنّمك البسيط، ترى البذرة ولا ترى الشجرة العملاقة. غاب البناء الهارموني والتوزيع الأوركسترالي والفخامة الكوراليّة. بالمناسبة: هل نسيت أن سيد درويش كان يتصيّد الجمل اللحنية المميزة البسيطة من الباعة المتجولين؟ أرجو ألا تستاء إذا صدمتك بأن ذلك التحوّل والنمو والتكامل، التي يشهدها اللحن المميز (ثيم) في هذا العمل السيمفوني هي عبارة عن تنمية رأسمال صغير ليصبح مشروعا تنمويّاً عملاقاً، كمثال اقتصادي. هي بمثابة الخلية الأولى التي تتكاثر لتغدو علقة ثم مضغة وعظاماً تُكسى لحماً فتصير في النهاية خلقاً آخر. هي البذرة التي تمسي غابة أفكار. مشكلة الموسيقى العربية أنها حسّ بلا فكر، جسم بلا روح. الأفكار الموسيقية لا يمكن أن تنبع من الكلمات، مهما تكن قيمة الأشعار. من دون فكر الموسيقى وفلسفتها وتعبيرها عن ذاتها وروحها، تكون الموسيقى خرساء. يقيناً، في القرن الحالي تحديداً، 90% ممّا يتوهّم بعض الأوساط المشتغلة بالآلات، هو تهريج وإساءة إلى الذوق العام.
لزوم ما يلزم: النتيجة الفكريّة: ستتطور الموسيقى العربية يوم يدرك المعنيّون بالثقافة أنّ الفنون وإن كانت ميادين مواهب إبداعية، فإنها لا تتقدّم بغير إدارة فائقة وخطط تنموية علميّة.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4f2aewbe

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"