الدبلوماسية الحضارية و«أنسنة» العلاقات

00:10 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.إدريس لكريني

ترتبط الدبلوماسية بفن التحرّك والاتصال والتأثير في المستوى الدولي، والتوظيف المشروع للإمكانات المتاحة في سبيل تحقيق الأهداف، وقد شهدت تطوراً كبيراً على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة، ولم تعد مقتصرة في مهامها على الوظائف التقليدية المرتبطة بتمثيل الدول وتعزيز علاقاتها الدبلوماسية، وحماية مصالحها التقليدية، بل أضحت آلية لإرساء السلام، وتدبير الأزمات، وجلب الاستثمارات، وتقديم صورة مشرقة للحضارات والثقافات لمختلف الدول.

 وتزداد أهمية الدبلوماسية في ظل التطورات الكبرى التي يعرفها العالم الذي يعج بكثير من التناقضات والإشكالات، التي تحمل بين ثناياها فرصاً وتحديات. في الوقت الذي تمددت فيه العولمة، وفرضت نمطاً اقتصادياً مبنياً على فتح الحدود أمام البضائع والأفكار والخدمات، وتطورت التكنولوجيا الرقمية، ما جعل العالم بمثابة قرية صغيرة تلاشت معها الحدود التقليدية والجغرافية من جهة، وتصاعدت حدّة المخاطر والتهديدات التي تواجه الإنسانية جمعاء، سواء تعلق الأمر منها بتعرض كوكب الأرض للتدمير والتلوث تحت ضغط الصناعات غير العقلانية، أو تصاعد مخاطر الإرهاب والجريمة المنظمة، أو في ما يتعلق بالأمراض الخطرة المتنقلة من جهة أخرى.

 لقد كشفت جائحة «كورونا» التي ألقت بإشكالاتها المختلفة على السلم والأمن الدوليين، أن العالم أصبح بحاجة إلى إرساء قدر كبير من التعاون والتنسيق الدوليين لمواجهة هذه التحديات العابرة للحدود.

  وفي هذا السياق، ووعياً بحجم المتغيرات التي شهدتها الساحة الدولية، ورغبة في ترسيخ علاقات دولية بحس إنساني، أطلقت منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة «إيسيسكو»، مفهوم الدبلوماسية الحضارية في عام 2022 الذي يتقاطع في جزء كبير منه مع الدبلوماسية الثقافية والإنسانية، كإطار يدعم الحوار والتواصل الدوليين لمواجهة مخاطر وأولويات تهم الإنسانية جمعاء، بعيداً عن الحسابات الأحادية، والمصالح الضيقة.

 ويأتي طرح هذه الدبلوماسية كمساهمة في توظيف المشترك الحضاري الإنساني لإرساء سلوك دولي يدعم تحقيق التنمية الإنسانية، وينبذ الحروب، ويتيح تعزيز التضامن الدولي، والتنسيق الجماعي لمواجهة الكثير من الإشكالات التي تتهدّد البشرية جمعاء.

  ووعياً بأهمية النقاش الفكري والأكاديمي في إغناء هذا المفهوم وتعميق دلالاته، عقدت منظمة «الإيسيسكو» بشراكة مع جامعة القاضي عياض بالمملكة المغربية، ندوة علمية دولية حول «الدبلوماسية الحضارية.. قراءات متقاطعة»، شارك فيها عدد كبير من الباحثين والخبراء من مختلف الدول الإسلامية، توجت بإعلان المدير العام للمنظمة عن إحداث كرسي علمي بالجامعة أطلق عليه «كرسي الإيسيسكو للدبلوماسية الحضارية».

  وعلى امتداد يومين متتاليين، انصبت أشغال الجلسات العلمية لهذه الندوة على المساهمات في التأصيل النظري لمفهوم «الدبلوماسية الحضارية»، وعلى رصد الأدوار المفترضة للفاعلين في هذا الصدد، إضافة إلى تناول دور «الإيسيسكو» كفاعل مؤسساتي في تشكيل المفهوم وإجراءاته ميدانياً في إطار من التشاركية.

 وقد أبرزت المداخلات المقدّمة في هذا الإطار، أهمية صقل هذا المفهوم داخل المؤسسات الجامعية باعتبارها فضاء لإنتاج الفكر والمعرفة، في عالم مملوء بالتحديات التي لا تستثني أحداً، حتى يصبح أحد روافد الدبلوماسية الدولية، استناداً إلى اجتهادات فكرية أكاديمية، واستلهاماً للمشترك الحضاري الذي يطبع المجتمعات الإنسانية، رغم الاختلافات الثقافية والسياسية والمصالح الاقتصادية المتباينة، بخاصة أن مقولات الصدام التي برزت بعد نهاية الحرب الباردة، كانت تحركها مصالح وخلفيات سياسية واقتصادية، تعكسها الرغبة في توفير أجواء نظام دولي أحادي القطب، وأخذاً في الاعتبار أن عمق الديانات والثقافات هو التواصل والتعايش والحوار.

  وقد نوّه الكثير من الباحثين بأن كسب رهان هذه الدبلوماسية يقتضي مقاربة تشاركية، تنخرط فيها الدول والمنظمات الدولية، والمؤسسات الجامعية ومراكز الأبحاث.

 وثمّة الكثير من الشروط والمقومات التي تدعم كسب رهان هذه الدبلوماسية، في هذه المرحلة المفصلية التي يمرّ بها العالم.

 تمثّل الدبلوماسية الحضارية أسلوباً تواصلياً دولياً راقياً يعبّر في مجمله عن نبض الكثير من ضحايا الحروب والنزاعات، وعن طموح عدد من المفكرين والفلاسفة والمبدعين وصناع القرار في عالم آمن يتسع للجميع، بفرصه ومقوماته، في سياق مواطنة منفتحة وأخوة إنسانية، تدعمان التواصل والتسامح، لتجاوز حالة القلق والترقب من مستقبل مبهم التوجهات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3zjzshrh

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"