عادي
التطور التكنولوجي يتطلب تحطيم القوالب الفنية القديمة

الشكل والمضمون.. جدل المسرح الدائم

19:41 مساء
قراءة 4 دقائق

أحمد الماجد
نتيجة للمتغيرات الحضارية والتطور السريع للتكنولوجيا الذي لم يؤد فقط إلى زيادة سرعة تغير الأمزجة، بل أدى أيضاً إلى تغير مجال الاهتمام في ما يتعلق بمعايير الذوق الجمالي، وأدى إلى شغف جنوني بالتجديد، وسعي مستمر إليه، جعل الكاتب ينسجم مع الحالة التي وصل إليها الأدب المسرحي، لذا جاءت كتاباته بأطر وفلسفات ومضامين عبرت عن روح العصر، فظهر اختلاف الشكل لديه في النص المسرحي وأصبح يتنقل في كتاباته بين مدارس مسرحية مختلفة.

من هنا، وقع على كاهل الكاتب المسرحي اليوم أن يخلق شيئاً جديداً وأصيلاً، فمرحلة تقليد النص الأجنبي انتهت، وآن له أن يبتكر كامل أسلوبه. وإذا كان الشاعر العربي الحديث قد حطم القوالب الشعرية القديمة وبنى من حطامها شعراً جديداً، فقد صار من واجب الكاتب المسرحي الجديد أن يفعل مثلما فعل الشاعر بأن يتجاهل كل ما يعرفه من القوالب المسرحية السابقة.

إن الكاتب العربي لم يعايش المذاهب الأدبية منذ نشأتها الأولى، وتعاقبها، وتطورها التدريجي، وظهور كتّاب ونقّاد ومفكرين لكل مذهب، لكنه اطلع عليها كلها في فترة زمنية واحدة، وذلك عن طريق ترجمة الكثير من الكتب النقدية، والنصوص المسرحية، التي تنتمي الى عصور، ومراحل، ومدارس مختلفة، فتأثر بها جميعاً، إذ إن الكاتب العربي قد تأثر بالمسرح اليوناني، وبمسرح شكسبير، وبالكلاسيكية، والرومانسية، والواقعية، وبمسرح إبسن، وتشيخوف، وبرانديللو، دون أن يعيش في زمن هذه المدارس، أو ينتمي إلى أية أمة من أُمم هؤلاء الكتاب، من هنا ندرك مدى الاختلاطات التي كانت تتم عند كل واحد من كتّاب المسرح العربي، وتلك هي الورطة التي وجد الكاتب العربي نفسه فيها، وهي تعدد المذاهب في أغلب النصوص التي يكتبها، وأصبح الكاتب العربي مضطراً لأن يصوغ من مجمل ما تأثر به من هذه المذاهب المختلفة التي اطلع عليها والمسرحيات المختلفة التي قرأها، أسلوباً فنياًَ خاصاً به، مقنعاً لعصره، ومتناسباً مع الواقع الذي يعيشه، في الشكل والمضمون.

فالشكل.. كما يراه الناقد الإنجليزي «هربرت ريد»، «هو الهيئة التي يتخذها العمل، ولا يعنينا إذا كان ذلك العمل الفني بناء، أو تمثالاً، أو صورة، أو قصيدة شعرية، أو سوناتا موسيقية، فإن كل شيء من هذه قد اتخذ هيئة خاصة أو متخصصة، وتلك الهيئة هي شكل العمل الفني، وهذه الهيئة تكون من صنع إنسان ما، هو الفنان الذي يضفي الهيئة على شيء ما. فالشكل ليس مجرد إعطاء المادة صيغتها النهائية الكاملة، بل هو في جوهره تعبير عن نظرة إلى العالم يحددها المجتمع».

*بناء

يستمد الفن في مجمله مادته من الحياة اليومية ومن العمل، ولكنه يهب العلاقات الإنسانية شكلاً نوعياً محدداً هو الشكل الفني. وهكذا فهو بناء فوقي، ولكنه يمد جذوره في العمل، وفي الحياة التطبيقية وفي قدرة الإنسان على قهر الطبيعة. فالشكل الجمالي هو الذي يستطيع أن يقدم واقعاً آخر أي يحتج على الواقع المعيش بحكم مغايرته.

أما المضمون فهو ما يقدمه العمل الفني من معنى، أو يريد أن يوصله من أفكار، وهو بالضرورة تاريخي اجتماعي، يعكس الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها في ظرف تاريخي محدد، وهذا الانعكاس ليس انعكاساً ميكانيكياً، بل هو بمثابة علاقة جدلية بين الواقع المعيش والعمل الفني، فالمضمون خطاب فكري وفق معالجة بعينها ينقلها النص المسرحي إلى المتلقي، إذ يتشكل المضمون طبقاً لأسلوب المعالجة الدرامية بغية الوصول إلى هارموني مقبول بينه وبين الشكل، فالمضامين تختلف وفقاً لأوراق النص، فهناك الكاتب الذي يخضع مضمونه الفكري لحتميات التناسق الدرامي والشكل الفني، في حين آخر يلح عليه المضمون إلحاحاً قد يجعل مسرحيته مجرد أداة عابرة لتوصيل مضمونه، وبالتالي فليس هناك مضمون أو فكر أو موضوع مطلق أو مجرد أو مستقل بذاته ذلك لأنه يستحيل الفصل بين المضمون الفكري والشكل الفني في العمل المسرحي، فالتوازن والتفاعل الدرامي بين الفكر والفن ضرورة منطقية وجمالية لا غنى عنها. ولكي يتمكن النص من الوصول إلى ذلك عليه أن يحمل بصمة كاتب ذي ثقافة عالية وقدرة على رصد القضايا والمشكلات، بل وتحليلها واختيار الزاوية التي يتناولها منها لكى تعبر عن رؤيته للقضية من خلال أعماله الفنية. فهناك معيار متغير قائم على كيفية توظيف الثوابت السابقة في التعبير عن المضمون الذي يتصدى له لأن الكاتب لا يوجد في المطلق.

وهنا يبرز السؤال القديم الجديد، أيهما أهم، الشكل أم المضمون؟ أو أيهما يختاره الكاتب في البداية أولاً؟

يرى الناقد النمساوي أرنست فيشر أنه: «ومنذ أيام أرسطو عندما طرح القضية للمرة الأولى وأجاب عنها إجابة باهرة، منذ ذلك الحين عبر كثير من الفلاسفة والفنانين عن رأيهم القائل بأن الشكل هو الجانب الجوهري في الفن، هو الجانب الأعلى، الجانب الروحي، ويرى هؤلاء المنكرون أن الشكل الخالص هو جوهر الواقع».

*ذهنيات خاصة

لقد سئم جمهور الأشكال والمضامين القديمة والمتكلسة التي تقوم عليها مسرحيات الأيام الخوالي، فالبناية الضخمة تنهار حتماً إذا كان هيكلها الحديدي ضعيفاً أو لا وجود له وكثير من الناس يعدون البناية من ناطحات السحاب عملاً من الأعمال الخرافية في الجمال، لإشرافها على مدينة من المدن، ومثل هذه البناية، بواجهتها الجذابة المزخرفة لا توحي للعين المجردة إلا قليلاً بما تتكون منه عناصرها البنائية، إلا أن هذه العناصر موجودة بحذافيرها في تتابع سليم معقول متماسك من الناحية الهندسية المعمارية، وقوة البناء الحقيقية، تنبئ عن نفسها حينما تناطح الرياح العاتية المسلطة على ما لا يحصى من الأقدام دون أن تزعزع منها حجراً واحداً، وكذلك فإن النص المسرحي حينما يشتغل على مضمون قوي وبهي ومتماسك يحتاج أيضاً إلى نوع خاص من الأذهان لكي تتولى صياغة شكله.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yd34jv8a

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"