عادي

الصمت.. لغة العين أكثر بلاغة في المسرح

16:40 مساء
قراءة 4 دقائق

أحمد الماجد

وظيفة المسرح لا تبتعد كثيراً عن وظيفة الشعر.. من خلال الإيحاء لا التقرير، من خلال ما يقال وما لا يقال! فالأحداث المباشرة غالباً ما تؤدي في النهاية إلى التقرير.. إلى حل مشكلة بشكل قاطع ملزم.. أو إلى فرض رأي الكاتب على الأحداث أو إلى التبشير بفكرة أو دعوة سافرة. ولكن عندما يلجأ الكاتب إلى الحدث غير المباشر، عندما يجعل أغلب الأحداث تقع بعيداً عن بصرنا وسمعنا، هنا فقط يتسع أمامه المجال كي يصور أثر هذه الأحداث على شخصياته.. لكي يغوص في أعماقها.. ويتخلص مما هو محدود ويرتفع إلى الإنساني العريض، لكي يهرب من الوقتي الزائل ويصور الدائم الأبدي، فيعطينا نبض الحياة اليومية ومع ذلك يوحي إلينا بأكثر مما نراه أمامنا.

يعتبر الصمت أهم ركائز البناء الدرامي، حيث يلعب أدواراً متعددة وشديدة التأثير على المستويين الدرامي والجمالي، وهي أدوار قد تعادل مع الأدوار التي يلعبها الحوار، وربما يتفوق الصمت على الحوار الكلامي في بعض المواقف التي يكون الصمت فيها هو الطريقة الوحيدة لنقل حالة التأزم الدرامي التي تقع فيها الشخصية المسرحية.

الصمت هو وحدة زمنية فاصلة بين فعلين في تشكيل الخطاب المسرحي ويشكل جزءاً مهماً من بنية العرض ويقسّم حسب الحاجة إلى صمت طويل وصمت متوسط وصمت قصير ويحدث في الإلقاء وفي الحركة أثناء العرض، فهو وسيلة من وسائل إيصال الخطاب المسرحي ، وكثيراً ما يكون الصمت لوناً من ألوان التورية، لأنه يبدو سكوتاً ظاهرياً عن الكلام، بينما هو في حقيقة الأمر كلام مضمر، يحمل معنى الإدانة؛ وهو بذلك يشكل قوة اتصال غير شفاهي؛ بخاصة عندما يكون هو الوسيلة الوحيدة للاتصال . وكثيراً ما يكون موقف استثارة لفهم الآخر عبر لغة العيون التي تحل محل اللسان في التعبير عن المسكوت عنه وبطريقة أكثر بلاغة. وعندما لا تكون هناك حاجة إلى الكلمات يكون الصمت دعوة الآخر إلي التأمل والنظر. وقد يكون الصمت نوعاً من الحماية عند الخوف من زلل الكلام. وقد يكون إرهاصاً وترقباً حذراً في مواجهة ما يعتقد أنه تهديد موشك علي الوقوع؛ وبهذا المعنى يصبح الصمت صراخاً بلغة الفطرة تعبيراً عن ألم الرغبة المكبوتة التعبير. والصمت – في كل الحالات - هو حالة ذهنية. كما أنه حالة اختيار إجباري ، وبخاصة عندما يكون بديلاً للاتصال الكلامي بالنظرات.

  • مفاهيم

كما أن الصمت يعد لغة بحد ذاته، وكما هو معروف فإن اللغة لا تقتصر على ما هو مدون من حروف يسطرها كاتب مسرحي وإنما هناك تنوعات ومفاهيم سبقت اللغة المدونة، فالدال لغة في العرض والمدلول لغة أيضاً. ومع الأهمية الدرامية والجمالية للغة الصمت في فنون التأليف وفنون التمثيل وفنون العرض المسرحي ؛ إلّا أن قلة قليلة من الكتاب والمخرجين من استطاعوا نظم لغة الصمت مع لغة الكلام في صياغتهم لصور التعبير المسرحي كتابة أو أداء أو في تضفير لغة الصمت في منظومة إيقاع العرض.

ويقدم خطاب الصمت في المسرح فرصة للمتفرج لكي يستوعب الأبعاد السيكولوجية الخفية للشخصيات، عندما تتجسد في حركاتها وسكناتها، وهذا الخطاب يجعل الجمهور يستوعب الأبعاد السيكولوجية الخفية للشخصيات، عندما تتجسد في حركاتها وسكناتها ويستوعب المعاني بلا كلمات مباشرة تقريرية وخاصة عندما تقترب الأحداث من لحظة التنوير الكاملة التي تتجمع عندها الخيوط كلها، فيصبح للصمت في هذه اللحظات قيمة درامية راسخة.

وإذا كانت نغمة صوت الممثل تلوّن المعنى وتضفي على الأداء التمثيلي جمالية التنويع الشعوري، بما يظن معه عدم قدرة لغة الصمت علي تلوين المعني، أو عدم القدرة على التنقل عبر المعاني صعوداً وهبوطاً أو حدة وليناً عن طريق التحكم في مسارات النبر الصوتي؛ فإننا نقول : إن الصمت باعتباره تعبيراً عن رغبة في التوازن؛ تتعدد عنده ألوان التعبير عن المعنى بارتباطه بالفعل الذي يكون الصمت رد فعل له ، كما تؤدي الحركة الجسدية المعنى خير أداء بالتململ في الحركة وقوفاً أو قعوداً أو بالإشارة أو بالإيماءة، أو بتعبيرات الوجه ابتساماً أو اقتضاباً؛ لأن الصمت قوة عندما يكون مصحوباً بابتسامة أو قطباً للجبين. والصمت في كل الحالات صراخ بطريقة مهيبة. وبخاصة عندما يكون الصمت حالة إظهار للكرامة الإنسانية. وكثيراً ما يكون الصمت حالة تنسك باطني لحظية؛ باعتباره تجربة داخلية ذاتية تصيب السعيد وتصيب الحزين، قبل أن يتحول الصمت إلي حالة السكون؛ بخاصة عندما يستشعر المرء الحاجة إلى إنقاذ شيء ما في النفس.

ومع أن الصمت كالسكون؛ إذ إن كليهما تجربة ذاتية مكتسبة عن طريق الممارسة الحياتية الطويلة؛ إلّا أن الصمت هو المظهر الخارجي للسكون.

  • تحفيز

والصمت في العرض المسرحي فيه حث للجمهور على الكلام، كبديل افتراضي عن معنى تعمد النص تركه بوضع فجوة، يكون على الممثل المبدع سدها من تلقاء نفسه بتعبير غير كلامي إذا لم ينتبه مخرج العرض إلى وجود فجوات تعمد المؤلف تركها لاستنهاض طاقات التفكير الإدراكي لدي الجمهور؛ وهنا تبرز إمكانية التساؤل : من الذي يؤثر في الآخر، الصامت أم المتكلم؟ والإجابة قطعاً هي أن كلّاً منهما يؤثر في الآخر، لأن هناك حالة تفاعل جدلي بين الكلام والإنصات. سواء أكان التعبير المرسل كلامياً أو غير كلامي فالسكون يتفاعل تفاعلاً جدلياً مع الحركة إيجاباً أم سلباً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2dfvmudp

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"