حسام ميرو
بعد أن كانت روسيا دولة مهمّة في إنتاج الأسلحة والذخائر، وواحدة من أكبر المصدّرين العالميين لهما، تسعى مؤخراً للحصول عليهما من كوريا الشمالية، في مفاوضات مع بيونغ يانغ، مقابل مدّ الأخيرة بالمساعدات الغذائية، وتكنولوجيا متطوّرة للأقمار الصناعية والغواصات العاملة بالطاقة النووية. وتحاول روسيا من وراء هذه المفاوضات أن تسدّ العجز الذي وصلت إليه، بعد حرب مستمرة منذ نحو عام ونصف العام، لا تبدو أنها قادرة على التراجع عنها، فهذه حرب ميزان، يرى قادة الكرملين، وفي مقدّمتهم الرئيس فلاديمير بوتين، أنها ستحدّد موقع روسيا المستقبلي في المنظومة الدولية، وربما لعقود مقبلة.
من الناحية الاستراتيجية، رؤية الكرملين لأهمية نتائج هذه الحرب في مكانها، لكن الوقائع والدروس التي قدّمتها المعارك، وما رافقها من تطوّرات، تشير إلى صعوبة الموقف الروسي الميداني، وكذلك تراجع في القيمة الرمزية لعدد من الأمور التي تمثّلها موسكو، خصوصاً في مجالات التصنيع الحربي، التي تعاني اليوم عدم إمكانية رفد الجبهات العسكرية بما تحتاجه من عتاد وذخائر، وهو ما يؤثر بشكل مباشر في سير تنفيذ الخطط العسكرية من جهة، وتكبيد الجيش الروسي مزيداً من الخسائر في العدد والعتاد، ووجود صعوبات وعقبات عديدة، خصوصاً في مجال تأمين مواد وتقنيات تحتاجها الصناعات العسكرية، قد طالتها العقوبات الغربية، إضافة إلى العقوبات المالية، التي أسهمت في تعقيد طرق الوصول إلى تلك المواد من الأسواق الموازية غير النظامية.
بعد أشهر عديدة من الحرب الروسية الأوكرانية، كانت موسكو تلمّح إلى إمكانية حدوث تعاون مع الصين، وهو ما لم تؤكده القيادة الصينية أو تنفه بشكل حاسم، وأبقت تصريحاتها السياسية مواربة، بحيث تفهم على أكثر من وجه، حيث حاولت بكين الاستفادة من هذا الغموض في الموقف، وترك كل الاحتمالات واردة، في محاولة منها للضغط على واشنطن والحلفاء الأوروبيين، خصوصاً مع ازدياد مستوى التوتر مع تايوان، لكن هناك مؤشرات تدل على أن بكين لم تنخرط في دعم عسكري مباشر للقوات الروسية.
المؤشر الأول من طبيعة ميدانية، حيث يشير سير المعارك إلى أن روسيا لم تتمكّن من تعويض ما ينقصها من أسلحة وذخائر، خصوصاً مضادات الدروع، بعد أن حصلت أوكرانيا على دبابات من عدد من الدول. والمؤشر الثاني يتعلّق بواشنطن، التي سارعت إلى زيادة عدد التحالفات مع الدول المحيطة بالصين، وهي تحالفات ذات أهداف متعدّدة، ما دفع الصين إلى الحذر من أي دعم عسكري لموسكو، ومن جهة ثانية، وجود مخاوف لدى بكين، من أن تكون بحاجة لإبقاء احتياطاتها العسكرية بكامل قوتها، تحسباً لأي احتمال عسكري.
وبغض النظر عما إذا كانت المفاوضات الروسية مع بيونغ يانغ ستنجح في تأمين ما تطلبه موسكو من إمدادات عسكرية أم لا، فإن الخيار في حدّ ذاته، أي لجوء موسكو إلى بيونغ ايانغ، دليل على ضيق مساحة الخيارات المتاحة، وقبل ذلك، هو أحد مؤشرات نجاح العقوبات الأمريكية والغربية في محاصرة الصناعات الروسية العسكرية، ودفعها إلى التراجع عن مواقعها المهمة في الأسواق العالمية، وتحويلها من جهة مصدّرة إلى جهة مستوردة.
في مقابل هذه الحقائق السياسية والعسكرية، فإن سلاح الغاز الروسي، الذي استخدمته موسكو ضد أوروبا، يبدو أنه فقد الكثير من أهميته، فقد تمكّنت الدول الأوروبية المستوردة للغاز الروسي، وفي مقدّمتها ألمانيا، من تجاوز الصدمة الأولى، حيث كان من المتوقع أن تترك آثارها في العام الماضي في مجمل الاقتصادات الأوروبية بشكل كبير ومؤثر، وهو ما حصل بشكل نسبي، حيث فعّلت الدول الأوروبية خيارات بديلة في مجال الطاقة، مكّنتها من تلافي احتمال حدوث أضرار كارثية، نتيجة قطع إمدادات الغاز الروسي، في الوقت الذي حرمت فيه موسكو خزينتها من عائدات بيع الغاز، مع عدم وجود إمكانية فتح أسواق جديدة، خصوصاً أن الجهات المحتملة للاستيراد موجودة في آسيا، ومدّ شبكة أنابيب لنقل الغاز إلى تلك الأسواق يحتاج في بعض التقديرات إلى عقدين من الزمن.
ومع اقتراب فصل الشتاء ستزداد خيارات روسيا العسكرية تعقيداً، وربما الخيار الوحيد المرجّح حتى الآن هو استمرارها في حرب تدرك أنها لن تحسم لمصلحتها، وأن أفضل ما يمكن تحقيقه هو ألا تفسح المجال لأن تؤثر النتائج المخيبة للآمال في الميدان في الأوضاع السياسية الداخلية.