اللغة العربية والقوّة

00:08 صباحا
قراءة 3 دقائق

لا حاجة بنا إلى الحديث عن محاسن اللغة العربية وجمالها وبلاغتها وسحرها، فقد سبقني كثيرون لهذا الأمر في المؤتمرات والندوات والمقالات والحملات التوعوية، ولا حاجة بي إلى تأكيد المؤكد في أن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، وإجادتها واجبة على كل مسلم ومسلمة.

وعلى الرغم من هذه الحاجة، فإنني أجد نفسي في حاجة إلى التطرق إلى مكانة اللغة العربية ومستواها في عصرنا الحالي؛ حيث تميل أجيال كثيرة إلى التوجه للغات الأخرى لأسباب كثيرة علمية وعملية، تتعلق بسوق العمل ومصادر البحوث ومراجعها والتواصل مع المجتمعات الأخرى، وهي أسباب تخفي السبب الجوهري الذي يتمحور حول القوة. فقوة اللغة من قوة ناطقيها، والقوة لا تنحصر في السيف والبندقية والطائرة وإنما في عجلة الإنتاج بشكل عام، وفي العلوم الحديثة، التطبيقية والإنسانية. وكما أشار ابن خلدون، فإن المغلوب يتبع الغالب، ونضيف، يجعله مثلاً ونموذجاً وقدوة، ما يعني التشبع بثقافاته ومحاكاتها وتقليد أسلوب حياته، ما يعني أيضاً الاندفاع اللاواعي نحو النموذج القوي، إضافة إلى توصيفات أخرى للمغلوب.

إن ما أثار شهيتي للكتابة في موضوع اللغة العربية، توصية واحدة ضمن التوصيات الكثيرة التي رفعها المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية الذي عُقد في دبي من 6 إلى 8 من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وتقول حرفياً: (التحذير من تراجع مستوى الاهتمام بالمهارات والقدرات والمعارف اللغوية الحياتية التي يحتاج إليها المواطن العربي مدى الحياة، وخاصة القدرة على الكتابة والقراءة والخط، والمحادثة والتواصل والتفكير والتعبير والبحث والاستيعاب بلغة عربية سليمة)، وهي توصية خطِرة جامعة شاملة، في توصيف دقيق وبلغة مؤدبة ناعمة، لحال اللغة العربية، والمقصود بشكل مباشر للناطقين بها.

وحين تذكر التوصية التراجع في مستوى القدرة على الكتابة والقراءة والخط والمحادثة والتواصل والتفكير والتعبير وغيرها، فإنها تعني تراجعاً حقيقياً في الإقبال على التحدث باللغة العربية، وهذا يتبعه التفكير والتعبير والاستيعاب. ومن الواضح أن هذه النتيجة لم تأت بشكل عشوائي وإنما نتيجة بحوث، فقد شاركت في المؤتمر المذكور 80 دولة، وتمت مراجعة 700 بحث وورقة عمل ركزت على التحديات والمشكلات الميدانية التي تواجه الفرد والأسرة والمجتمع والمؤسسات الحكومية والأهلية. وأعتقد بأن هذه التوصية كانت قاسماً مشتركاً للمؤتمرات السابقة، وللندوات؛ بل كانت القاعدة التي انطلقت منها حملات التوعية والاهتمام باللغة العربية منذ سنوات طوال، ربما أكثر من خمسين سنة على ما أظن وأشهد. ومنذ ذلك الحين لم تتغير التوصية ولم يتغير الاهتمام باللغة العربية؛ بل تفاقم الوضع وزادت سلبياته.

لقد وقع تحت يدي وأنا أبحث بشكل سريع في الأمر، بحثاً بعنوان (أسباب انتشار اللغة العربية وسيطرتها في الأندلس، للباحث الدكتور عبدالمجيد البغدادي)، ونُشر في مجلة القسم العربي بجامعة بنجاب (لاهور- باكستان)، العدد 24 لعام 2017. ما يعني أن البحث حديث أيضاً. ولفت انتباهي الأسباب التي ساعدت على انتشار اللغة العربية في جميع أنحاء إسبانيا، وأهمها باختصار؛ أن غير المسلمين لمّا رأوا التسامح الإسلامي في جميع الأمور، وشاهدوا الكرامة والصدق في الدين الإسلامي، دخل أكثرهم في الإسلام، وكان من الطبيعي أن يتعلموا اللغة العربية لأداء العبادات.

أما السبب الثاني، وهو الأهم في نظري، أن اللغة العربية كانت لغة الفاتحين والغالبين، وكان لأهلها الحظ الكبير في العزة والقوة والغلبة والسلطنة، وكان على كل من أراد التقرّب من الحكام والسلاطين أو ينال وظيفة حكومية، أن يتعلّم اللغة العربية ويحسنها قراءة وكتابة، حتى أن رهبان تلك الحقبة سُحروا باللغة فترجموا كتبهم المقدسة إلى اللغة العربية، إضافة إلى أن اللغة العربية كانت لغة العلوم والمعارف.

أعتقد بأن المغزى شديد الوضوح، وأستنتج أن القوة، ولا أعني القوة المادية فقط، هناك القوة الناعمة أيضاً، قوة الإنتاج والابتكار والاعتماد على الذات، هي ما نحتاج إليه في العالم العربي لإعادة الثقة باللغة العربية، والحديث ذو شجون.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5n6nppz9

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"