النظام الدولي الأعرج

00:22 صباحا
قراءة 3 دقائق

منذ احتلال العراق في العام 2003، وتنفيذ الولايات المتحدة لغزوها العسكري لبلد منضوٍ تحت المظلة الأممية، تصاعدت الآراء المطالبة بإصلاح النظام الدولي وعدم تركه «لعبة» بأيدي قلة من الدّول تقرر هي دوماً مصير الشعوب. وفي خضم تلك المطالبات ارتأت بعض الأطراف الدولية نقل مقر الأمم المتحدة من واشنطن إلى جنيف، كخطوة أولى في مسار إنهاء النظام الدولي القائم على سيطرة الولايات المتحدة.

إلاّ أنّ أحداث ما يسمى «الربيع العربي» وموجات العنف التي سادت منذ ذلك الوقت وحتى الآن، جمدت مشاريع إصلاح الهياكل الأممية، ولكن حرب غزّة أعادت طرح الملف وبقوة هذه المرّة، خاصة بعد أن رفعت الولايات المتحدة الفيتو مرّة جديدة ضد وقف الحرب والمأساة الإنسانية التي ترتكب في حق الشعب الفلسطيني.

الحقيقة أنّ الشعوب في كامل أنحاء العالم لم تعد قادرة على تحمل نظام دولي يقوده الغرب بذهنية ما قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، أي بمنطق السلطة الأبوية للدول الاستعمارية على مستعمراتها، وهذه الذهنية هي التي قادت إلى ظواهر سلبية تفاقم الأزمات الأمنية والاجتماعية في تلك التي لم تجنِ من استقلالها غير مكاسب سياسية محدودة، فيما ظلت مقدراتها وخيراتها تحت إمرة المستعمرين القدامى.

من هنا تصاعدت وتيرة الغضب في القارة الإفريقية على سبيل المثال في اجتماعات الدورة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة نهاية شهر سبتمبر/أيلول الماضي، وعندما سادت نبرة الاستياء من «الظلم التاريخي الواقع على القارة الإفريقية»، منتقدة أعباء الدين والنظام المالي «غير العادل»، وتحمّل القارة تداعيات التغير المناخي، فى ظل تهرب البلدان الكبرى من مسؤولياتها عن الانبعاثات، وسط تجديد عدد من قادة البلدان الإفريقية مطالبهم بتمثيل أكثر عدلاً لإفريقيا فى المؤسسات الدولية، وإجراء إصلاح هيكلي للمؤسسات متعددة الأطراف والأنظمة المالية الدولية التى جعلت القارة ضحيةً للنظام القائم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

ولم تزد حرب غزة إلا إصراراً على إصلاح النظام الدولي، ذلك أنّ كل معايير وقيم النظام الدولي القديم قد سقطت، وثارت عليها حتى شعوب تلك الدول التي تقود هذا النظام الدولي.

وهناك آراء تعتقد أنّ النظام العالمي يتغير بسرعة كبيرة اليوم، حتى أن المؤسسات المرتبطة بالسياسة الدولية ليس لديها الوقت الكافي للاستجابة له بشكل مناسب أو فهمه بشكل كامل. ففي روسيا على سبيل المثال، تطورت نظرية خجولة تؤسس لفكرة أن القانون الدولي يجب أن يكون متيناً ومستقراً، ويأخذ في الاعتبار مصالح جميع الأطراف، وهذا على أنقاض نظرية «القواعد» والنظام العالمي القائم عليها، والتي تروّج لها النخب الجماعية في الغرب وأمريكا الشمالية – والتي هي نوع من الخداع لتعزيز الهيمنة. ويعتقد الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين أن ما يجري في العالم الآن هو محاولات إسقاط نظام «القطب الواحد»، الذي رأى منظرو العولمة أن انتصار الحضارة الرأسمالية الليبرالية الغربية دليل إثبات على «نظرية التقدم». وأنّ جميع الأنظمة الأخرى- حضارات، ودولاً قومية، ومواجهة أيديولوجيات وما إلى ذلك- هي من الماضي وتتم إزالتها والتغلب عليها. ولهذا السبب، تبادر روسيا للهجوم، من أجل استعادة السيادة الحضارية، وهي تحارب «القواعد» الليبرالية بشراسة، وتسعى إلى الإصرار إما على سيادتها الويستفالية، أو على شيء أكبر من ذلك، والذي تضمنه الأسلحة النووية ومقعد دائم في مجلس الأمن الدولي.

وفي الآونة الأخيرة فقط، بعد الحرب، بدأ الكرملين يفكر جدياً في التعددية القطبية الحقيقية، والتي تمثل في جوهرها عودة إلى النظام العالمي الحضاري التقليدي، الذي كان قائماً في عصر ما قبل «كولومبوس». وتفترض التعددية القطبية وجود نظام للقانون الدولي يختلف جوهرياً عن الأحادية القطبية، حيث ينقل وضع السيادة من الدولة الوطنية إلى الدولة الحضارية، أي نسخة جديدة من الإمبراطورية التقليدية، فضلاً عن مبدأ المساواة بين جميع الأقطاب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/47sekcax

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"