عادي
في ندوة عقدها مركز «الخليج» للدراسات

تعليم اللغة العربية عن بُعد.. بين الواقع والمأمول

01:04 صباحا
قراءة 14 دقيقة
مشاركو ندوة التعليم عن بعد

أكد د. عيسى صالح الحمادي مدير المركز التربوي للغة العربية لدول الخليج في ندوة أقامها «مركز الخليج للدراسات»، عن تعليم اللغة العربية عن بُعد.. بين الواقع والمأمول، أن مصطلح التعليم عن بعد حاز زخماً واسعاً في الأعوام القليلة الماضية بعدما اضطر العالم كله إلى التعامل مع تداعيات فيروس كورونا في شتى المجالات، بما في ذلك المجال التعليمي. ومن ثم فقد انتشر هذا النمط من التعليم في ذروة أزمة الوباء، وفي بعض الدول أصبح هو الأساس. وحتى بعدما انقشعت أزمة كورونا ظل لهذا النمط من التعليم أهميته، وظهرت مصطلحات من قبيل التعليم الهجين الذي يمزج بين التعليم وجهاً لوجه، والتعليم عن بعد.

وقال إذا كان التعليم عن بُعد حلّ بعض المشكلات، فإنه كشف وجود فجوات في القدرات التكنولوجية للدول والمؤسسات، وكذلك الأفراد، معلمين ومتعلمين. وفي الوقت نفسه، فإنه أظهر بعض السلبيات التي رافقته. ربما يقال إن ذلك مرتبط بالتعليم النظامي الرسمي، الذي ينتظم فيه مئات الملايين في العالم. وقد يقال إن السلبيات التي ظهرت تختلف من بيئة إلى أخرى، ومن مرحلة دراسية لأخرى، وهذا صحيح. ويعكف الخبراء على دراسة تلك التجربة من جوانبها كافة. ويستوي في هذا النوع من التعليم تعليم اللغة العربية، وغيرها من المواد الدراسية، مع وجود بعض الاختلافات أيضاً، بين كل مادة دراسية وأخرى، بحكم طبيعة محتواها، وتوافر الأدوات اللازمة لضمان عرض محتوياتها والتفاعل بين أطراف العملية التعليمية؛ فماذا عن تعليم اللغة العربية عن بعد خارج النطاق المدرسي، بما في ذلك تعليمها لغير الناطقين بها؟

الصورة
الصورة

من المعلوم أن هناك جهوداً مؤسسية تعنى بتدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها، وهذه المؤسسات كانت تنظّم برامج مباشرة تجمع، المعلمين والمتعلمين. وهذا ما تجده في المراكز الثقافية في شتى أرجاء العالم، وهذا ينسحب على اللغة العربية، وغيرها من اللغات. كما أن هناك جامعات وجمعيات تعنى بتعليم العربية لغير الدارسين بها، وهي لا شك قد واجهت ما واجهه التعليم الرسمي من تحديات مع قدوم «كورونا»؛ فهل كانت لديها من الإمكانات والبرامج ما يمكنها من القفز إلى التعليم عن بُعد، أم أنها، أو على الأقل، بعضها قد اضطر إلى التوقف؟ وكيف استفادت هذه المؤسسات من تلك التجربة، سواء التي واصلت العمل عن بُعد، أو تلك التي توقفت ولو إلى حين؟ هل ثمة استثمارات ضخت في تعليم اللغة العربية عن بُعد بما يجعل هذه المؤسسات قادرة على الاستمرار في أداء دورها، سواء عبر التعليم المباشر أو عن بعد؟ وهل الأمر قاصر على الاستثمار في توفير التقنيات فقط، أم أن هناك احتياجات أخرى تخص القائمين بتعليم العربية في تلك المؤسسات، وكذا البرامج والأدوات التعليمية؟ ومع كل ذلك ما المدى الذي وصل إليه الإقبال على تعليم العربية عن بُعد من الراغبين في تعلمها؟

قضايا كثيرة يطرحها موضوع تعليم العربية عن بُعد، منها ما يخص القائمين بهذا النوع من التعليم، ومنها ما يخص الفئات المستهدفة، ومنها ما يتعلق بمضامين برامج التعليم عن بُعد، ومنها ما يتعلق بالأطر التنظيمية لمثل هذا النوع من التعليم. ومن ثم، فإن هذه الندوة ناقشت الموضوع عبر المحاور الآتية:

الأول: تعليم العربية عن بُعد بين الجهود المؤسسية والفردية: المميزات والتحديات.

الثاني: الفئات المستهدفة.

الثالث: مضمون برامج التعليم.

الرابع: التوصيات.

واقع نعيشه

وذكر د. عواد الخلف، أنه لن تكون هناك مشكلة كبيرة في التحول من التعليم التقليدي إلى التعليم عن بُعد، فقد أصبح واقعاً تعيشه الجامعات والمؤسسات التعليمية، لا سيما بعد جائحة «كورونا»، وهذا النمط التعليمي له ما له، وعليه ما عليه، وهو أنواع، منه الإلكتروني، الذي يعتمد على تسجيل المحاضرة في وسائط أو برامج يصل إليها الطالب عبر برنامج معين، ومنه المدمج، ومنه التفاعلي، وإذا ما أردنا الاستفادة منه في تعليم العربية فإنه لا يمكن إكساب الطالب المهارات المطلوبة بمجرد تسجيل المحاضرات، أو الرجوع إليها في وقت لاحق، لأن مثل هذا الإجراء ينمّي مهارة الاستماع من دون التحدث، أو الكتابة، بل لا بدّ من توفير التعليم التفاعلي بكل أدواته وتهيئة الأستاذ والطالب للقيام بذلك، عبر الحقيبة التعليمية الإلكترونية.

الصورة

وأكد أنه لا بدّ من تقديم محتوى تعليمي يتيح إمكانية التفاعل النشط مع هذا المحتوى عبر برامج إدارة المقررات، أو إدارة الحوار بين الطلبة والمدرسين، ما يؤدي إلى زيادة إمكانية الاتصال بين الطلبة، وبينهم وبين والجامعة.

وهذا لا يعني إلغاء دور المعلم، بل أصبح دوره أكثر أهمية وصعوبة، وبحاجة إلى مزيد من التطور، فهو شخص مبدع صاحب كفاءة عالية يدير العملية التعليمية باقتدار وتمكن، ويعمل على تحقيق طموحات التقدم والتقنية. فمهنة المعلم أصبحت مزيجاً من مهام القائد ومدير المشروع البحثي والناقد والموجه. ولكي يكون دور المعلم فعالاً وناجحاً، على المعلم أن يجمع بين التخصص والخبرة، ويكون مؤهلاً تأهيلاً جيداً، ومكتسباً الخبرة اللازمة لصقل تجربته.

وأضاف أنه مما تجدر الإشارة إليه صعوبة تجاهل الإفادة من التقنية في العملية التعليمية، في عصر التطور التقني والتكنولوجي، ولسنا هنا بصدد المفاضلة بين نمط التعليم الحضوري والتعليم عن بُعد فلكل مزاياه وعيوبه، وطرائق التعلم أو التعليم، متعددة، ومختلفة. وقد أشار القاضي عياض في كتابه «الإلماع» إلى أن طرائق التحمّل عند علمائنا سابقاً كانت ثماني، منها السماع، والقراءة على الشيخ، والإجازة والمناولة، والمكاتبة، والوصية، والوجادة، والإعلام؛ فبعضها حضوري، وبعضها عن بُعد ولكل أهميته وفائدته.

الصورة

تحديات كبيرة

وذكرت د. عائشة الشامسي، أننا لا نستطيع إنكار أن جائحة «كورونا»، حولت العالم إلى التعليم الإلكتروني، أو التعليم عن بُعد، ولكن في الوقت ذاته لا بدّ من الاعتراف بقصور التعليم عن بُعد، في إثراء مهارات الطالب اللغوية، خاصة تعليم اللغة، في ظل التحديات التي تواجه هذه التجربة، ومن أهمها عدم تساوي قدرات المعلمين التي تمكنهم من إدارة العملية التعليمية عن بُعد، كما أن المتعلمين يختلفون، فهناك فروق فردية بين الطلاب، ومن ثم قد يحتاجون إلى أساليب مختلفة.

وهناك اختلاف بين التعليم الإلكتروني والتعليم عن بُعد، فالإلكتروني نظام تفاعلي للتعليم يقدم للمتعلم باستخدام تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، أما عن بُعد فهو من أنماط التعليم تستخدم فيها وسائل وتقنيات إلكترونيات باتصال المتعلم والمعلم، سواء خارج المقرات التعليمية، أو داخلها.

وأضافت: أودّ أن أوضح أنني لست مع تعليم العربية عن بُعد، لأن اللغة يجب أن تؤخذ مباشرة، والدليل على ذلك أن العرب قديماً كانوا يرسلون أبناءهم للبادية لتعلّم العربية الفصحى، والسليمة، وقد فرضت الجائحة وضعاً معيناً، ولكن علينا أن لا نستمر فيه، خصوصاً في تعلم اللغة بشكل عام والعربية، بشكل خاص.

ولنفترض أن الطالب تعلم ما يمتّ للغة العربية بالتعليم عن بُعد، فهل هو بذلك امتلك مهاراتها؟

وقالت الشامسي: هناك تحديات أخرى منها ضبط العملية التعليمية، وكل متعلم يحتاج إلى أسلوب مختلف لمزيد من الفهم والتعلم، لأن هناك ثقافات ولهجات وقدرات متعددة لدى كل طالب.

مبادرات إماراتية

ولا ننكر أن هناك جهوداً مؤسسية وفردية، وقد ضبطت دولة الإمارات جهود التعليم عن بُعد، بمجموعة من المبادرات منها «مدرسة منصة» الإلكترونية التعليمية بالعربية، توفر خمسة آلاف درس تعليمي بالصوت والصورة في موضوعات عدة. والمدرسة الرقمية، وهي من مبادرات صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وتوفر تعليماً رقمياً معتمداً للطلاب من شتى الخلفيات والمستويات، التعليمية والاجتماعية والاقتصادية. وهناك أكاديمية هيئة تنظيم الاتصالات، والحكومة الرقمية، وتوفر دورات تدريبية وتعليمية في مختف الأمور. كما أطلقت وزارة التربية والتعليم ضوابط مهمة في قبول الشهادات الخاصة بالتعليم الإلكتروني.

وكذلك صدرت وثيقة عن المركز الإقليمي للتخطيط التربوي لضبط جودة التعليم الإلكتروني، والتعليم عن بُعد، وهذه وثيقة مهمة جداً، وتتضمن ستة معايير.

وقالت الدكتورة عائشة: بالنسبة إلى تجربة التعليم عن بُعد في المؤسسة التعليمية عند تدريس مساقات مختلفة، خاصة مساقات العلوم الإنسانية، كانت نتائج الطلبة جيدة جد، وعلى درجة معقولة من الاستيعاب، أما مساق العربية فقد تفاوتت درجة استيعاب الطلاب، وكانت المحصلة بالنسبة إلى العربية ليست ضمن المساقات ذات النتائج المرتفعة.

لذلك التعليم عن بُعد مفيد في أوضاع معينة، ولكن إذا أردنا تعلّم اللغة العربية بطريقة صحيحة، فلا بدّ أن تدرس وجهاً لوجه.

الصورة
1

استبانة علمية

وأشار د. علي الحمادي، إلى أنه استبق الندوة باستبانة علمية على عيّنة بحثية مقصودة من العاملين في تعليم العربية في مؤسسة ما، عن قناعتهم بفكرة تقديم دورة لتعليم العربية عن بُعد. وكانت النتائج (في ضوء فهمي الذي عبر عنه د. عيسى في مقدمة الندوة من تنامي هذا المصطلح بحثياً وتطبيقياً) كانت النتائج صادمة لي، خاصة ونحن خارجون للتوّ من أجواء التباعد الاجتماعي الإجباري الذي جعل التعليم عن بُعد خياراً وحيداً. باختصار، كانت القناعات ليست ضعيفة فحسب بل سلبية، وكانت الممارسات التطبيقية ليست متواضعة فحسب، بل معدومة.

وأضاف: لم أكتف بدور الباحث المستطلع، وفتحت نقاشاً مع المبحوثين طلباً لمعرفة الأسباب التي تجعل قناعاتهم وممارساتهم بتعليم العربية عن بُعد متواضعة. فأجابوا بأن مخرجات التعليم في مرحلة التباعد الاجتماعي كافية لإقناعي بأن التعليم عن بُعد غير مجدٍ. هنا سألتهم قائلاً: بالنسبة إلي الوضع كما هو، قبل التباعد، وأثناءه، وبعده. فالعبرة ليست بالقرب والبُعد، وإنما بالفكرة والجهد.

لذا فإني أقول إن من المجدي أن نبدأ تغيير الواقع الرمادي لتعليم اللغة العربية عن بعد إلى مستقبل زاهٍ، بتغيير قناعات واتجاهات معلّمي العربية عن الوسيط والطريقة، فمن لا يألف الطريق لن يخطو فيه خطوة.

تغيير القناعات

وأضاف: بعد تغيير القناعات وجب تجهيز الأدوات، وأعني بها: طرائق التعليم واستراتيجياته، ووسائط التقنية وبرامجها. يقلل بعضهم من فاعلية التعليم عن بُعد، بمبرر عدم القدرة على التفاعل، وينسون أن سبب نجاح مواقع التواصل في سحب جمهور الأخبار من القنوات الإخبارية والمنشورات الصحفية، وسحب جمهور الترفيه من المسارح والسينما، هو قدرتها على التفاعل مع الجمهور. لكن المفتاح يبقى بيد العربية، وقدرتها على صناعة وسائط تفاعلية، ولكن أقول إنها غير موجودة، فهناك استثمارات كبيرة وناجحة في هذا المجال.

وأضاف: دائماً ما أحب خوض التحدي، سألت أحد التقليديين، ما أصعب مهارة لغوية يمكن أن يخدمنا فيها التعليم عن بُعد؟ قال: الخط. قلت له: اختر من طلابك أسوأهم خطاً، وصِلني به عند بُعد. وتسلّمه مني بعد شهر.

وبالفعل بعد شهر عاد الطالب بخط غير الذي أتى به. في الحقيقة لم أبذل أي جهد سوى أن أختار له حساباً في «إنستغرام»، وأتابع في استخدامه لمدة نصف ساعة يومياً.

تعليم العربية عن بُعد يفتح باباً ومنفذاً لملايين البشر، يتوقون لتعلّم العربية، يفتح باباً لتعويض الفاقد التعليمي الذي يكثر الحديث عنه هذه الأيام، ويغلق باباً لأعذار واهية ما فتئت تزداد سنة بعد سنة، لتبرير الإخفاق المتنامي في مستويات طلابنا في اللغة العربية.

معايير مهمة

وأكد د. عيسى الحمادي، أن التعليم عن بُعد يقصد به «بُعد» المعلم عن المتعلم، ولذلك فالمعايير العلمية مهمة في هذا النمط من التعليم، كذلك من المهم وجود سياسة لغوية ومن ثم تخطيط لغوي، حتى لا يكون هناك فاقد في التعليم.

وأضاف أن الذكاء الاصطناعي، يجب ألا يعتمد عليه كل الاعتماد، فالذكاء الاصطناعي لن يعلم الطالب المشاعر والأحاسيس.

وأشار د. محمد عناد سليمان، إلى قضية تعلم العربية عن بُعد للناطقين بها، والناطقين بغيرها، واستعمال مصطلح قضية تعلّم اللغة العربية، لأن للعربية ميزة تختلف عن غيرها من اللغات، لأنها تمثل أبعاداً خاصة بها قد لا توجد في غيرها، وهي البعد الديني، لأنها لغة القرآن الكريم. والبعد الاجتماعي المرتبط ارتباطاً وثيقاً باللسان العربي، قديماً وحديثاً، والبعد السياسي، أي أن العربية جزء لا يتجزأ من الهوية العربية والإسلامية، وأداتها الفاعلة في بناء الحضارة الإنسانية.

وقال: علينا أن نتساءل: هل تضاءلت خصوصية تعلم اللغة العربية، أو غيرها من اللغات التي تتطلب نوعاً من التواصل الفيزيائي المباشر؟ وهل يمكن الاستغناء عن التعلم المباشر في مرحلة ما، من مراحل التعليم في ظل الأوضاع والمتغيرات الحديثة؟ وهل يمكن للتعلم عن بُعد تلبية احتياجات المتعلم بجوانب التعليم كافة، وهل يستجيب لتحقيق الغاية المأمولة منه؟ وهل استطاع التعلم عن بُعد تذليل جميع العقبات والعراقيل التي كانت وربما ما زالت تحول دون تحقيق الغاية المرجوة منه؟ وإذا كان قد تجاوز بعضها في اللغة العربية، فهل استطاع تجاوزها في تعلم غيرها من اللغات؟

وما قدرة المعلم على التأقلم مع هذا النوع من التعليم؟ وهل نملك الكوادر البشرية المدربة للقيام بهذه المهمة؟ وهل نملك الأدوات المعرفية والتقنية اللازمة للقيام بهذا الدور على أكمل وجه؟

وهل يمكن للتعلم عن بُعد أن يشكل بيئة حقيقية للغة تحاكي بيئة الناطقين بها، بحيث تستطيع أن تطور المهارة الشفوية لدى المتعلم ليتقن اللغة كما يتقنها أهلها؟ وهل يمكن تطويع العالم الرقمي الثلاثي الأبعاد للقيام بهذه المهمة؟

وأضاف: السؤال الأهم ما دور القرآن الكريم لكونه يمثل الصورة الأبهى للعربية الفصحى؟ وكيف يمكن الاستفادة من ذلك في إحداث تجربة تقنية تسهم إلى حد ما في تعلم العربية عن بُعد؟

لا شك في أن تعلم العربية، لغة ثانية، لم يعطها حقها كغيرها من اللغات، خاصة في التعلم عن بُعد، إذ إن المواقع التي تخصص من أجل هذا الغرض لم ترقَ إلى مستوى مواقع تعلم غيرها من اللغات، كاللغة الإنجليزية على سبيل المثال.

وقال: إن كثيراً من مواقع تعليم العربية عن بُعد لم تراع حتى الآن معايير الجودة من حيث المحتوى والتصميم، والسبب أن القائمين عليها لم يقفوا على المجالات التي ينبغي أن يخصصوا عنايتهم بها، من أجل تطوير تصميمها مواقع للعربية لغة ثانية، ولتكون قادرة على المنافسة وتحقيق التطور والإبداع.

التعليم بالمراسلة

د. بديعة الهاشمي، رأت أنه لا يمكن الحديث عن تعليم العربيّة عن بُعد إلا في إطار التعليم الرقمي بشكل عام، وفي محاولة لتقييم واقعه والمأمول منه، وللوقوف على أبرز الإيجابيات والسلبيات التي تصاحب هذا النوع من التعليم، مقارنة بالتعليم الحضوري. وتجدر الإشارة هنا إلى أن شيوع هذه الطريقة في التعليم بشكل واسع خلال جائحة «كورونا» لا يعني أنها كانت غير موجودة من قبل، أو غير معروفة، فقد كان عدد من المؤسسات التعليمية يتبنّى هذا الأسلوب من التعليم منذ سنوات عدّة، إذ كان يطلق عليها اسم «التعليم بالمراسلة»، أو «التعليم المفتوح».

وأوضحت: يعرّف هذا النوع من التعليم - بإيجاز- بأنه التعليم الذي يتم من دون تواصل بين طرفي العملية التعليمية (المدرس والطالب)، بشكل مباشر، وإنما قناة الاتصال فيه تمتدّ عبر الوسائط الإلكترونية، أو بتوفير المادة التعليمية الورقية والمطبوعة من الجهة التعليمية، وبذلك فهو يقوم أساساً على مبدأ التعلم الذاتي المستمر من المتعلم، عبر المنصات أو المواقع الإلكترونية، ليُختبر بعد ذلك وفق ما تراه الجهة التعليمية من أساليب التقييم التي تراها مناسبة للمرحلة وللمتعلم.

وقد استدعت الأحوال الطارئة التي اجتاحت العالم خلال الجائحة هذا النوع من التعليم بقوّة، ليكون الوسيلة المناسبة والأكثر ملاءمة حتى تستمر عملية التعليم. وقد كانت الاستعدادات للتعليم عن بُعد متفاوتة في دول العالم؛ ففي دولة الإمارات كان الانتقال إليه سهلاً وسلساً وتدريجياً، حتى استقرت الأمور بشكل منتظم وميسر.

التطبيقات الذكية

وأوضحت أنه في تعليم اللغة العربية للناطقين بها، وغيرهم، يمكن توفير عدد من تلك الوسائل والأدوات رقمياً (عن بُعد)، عن طريق المنصات الإلكترونية، والتطبيقات الذكية، والكتب الرقمية، بما تتضمنه من مواد نظرية وتطبيقية وتدريبات وغيرها. وهذه المنصات التي تعنى بتعليم العربية في تزايد مستمر وتطوّر مشهود لها، ومنها: منصة ناهل ونهلة، وتطبيق لمسة، وتطبيق مدرسة عصافير وغيرها.

ولكن المسألة لا تقف عند هذا الحدّ من توفيرها فحسب، فلا بدّ من تجاوب الركن الأهم في العلمية التعليمية واهتمامه، وهو الطالب الذي يتعلم اللغة. فإن ضمنّا تجاوب الطلبة فإننا سنضمن عملية تعليمية سليمة، إلى حد كبير.

وختمت الهاشمي: ما أذهب إليه بشدة، وأراه هو الأنسب بالنسبة إلى تعليم العربية في التعليم النظامي وأعني به المدرسي والجامعي، وليس الذاتي، هو العودة الكاملة إلى التعليم الحضوري، واعتماده الطريقة الوحيدة للدراسة. وفي الوقت نفسه الاستفادة من المنصات الحديثة والتطبيقات الذكية، ووسائل تعلم وتقييم وقياس مرتبطة بالتعلم النظامي، تتاح للطلبة للتطبيق عن بُعد ولإثراء العملية التعليمية الحضورية في الصف.

ثقافة الشاشة

د. مريم الهاشمي، أكدت أنه ومع عصر ثقافة الشاشة اتسعت درجات استخدام اللغة لتكون مظهراً كونياً يشترك فيه الجميع، ولم يعد محدداً في بيئة تواصلية مؤطرة، وصيانة اللغة ضرورة ومدخل أساس لصيانة وحفظ الهوية الحضارية والثقافية. والعربية لغة حضارة، ولذا تسابق أهل اللغات الأخرى لتعلّمها، فمن أهم سماتها أنها الوحيدة التي يكتبها أهلها كما ينطقونها، وبها يوحّد من يعتنقونها في لغة تمثلهم، ما يعطي ذلك الانتماء الروحي الذي يسعى إليه أغلب البشر. وكما يعمد أصحاب اللغات إلى حفظ لغاتهم ضمن الخريطة الجيولغوية، وجب على أهل العربية كذلك، خاصة الآن، ونحن أمام هذا الزخم التكنولوجي الذي يحاول فرض ثقافات لغوية، كالفرانكو عربي والعربيزي، ونجدنا أمام موضوعات بالغة الأهمية، كالتعدد اللغوي والتعايش اللغوي، وموت اللغات، والتعدد اللساني، وإلى جانب كل هذه التحديات نجدنا أمام تحدّ جديد، وحاضر فرضته الجائحة الأخيرة، وهو تعلّمها عن بعد. ولا يمكن أن نشيح عن واقعية حضور التعلم عن بُعد، الذي استمر إلى ما بعد الجائحة، وما جاءت به النظريات المختلفة حولها كنظرية الدراسة المستقلة، ونظرية التلاقي عن بُعد، ونظرية التكافؤ، ونظرية التعلم النقال.

وأشارت إلى أن التعلم عن بُعد – كما ذكر في دراسات سابقة – ميدان معرفي ومهني متعدد الجوانب والأبعاد، وهو نمط تدريسي معتمد على التعلم الذاتي، تسانده التكنولوجيا الحديثة.

اللغات الثانية

وتعلّم اللغات عن بُعد متفرع عن مجالين، أولهما: تعليم اللغات الثانية والأجنبية، وثانيهما التعلم عن بُعد في الموضوعات الدراسية العامة. إلا إن تعلم العربية عن بُعد، أو التعلم الالكتروني، أو التعليم المحوسب، أوالرقمي، أو عبر الإنترنيت، وإن اختلفت المصطلحات، هو تواصل إلكتروني في الأساس، أي تواصل خلف الشاشة، ويحضرنا في ذلك تعريف الإنسان المغترب بالمعنى التاريخي، وهو ذلك الذي يعيش في عالم لا إنساني، واغتراب الشخصية يكمن في الصدام القائم بين ما هو ذاتي، وما هو واقعي.

إذن، هناك مشكلة كنا نواجهها، ولم نزل نواجهها، وهي ضعف مستوى الطلاب في اللغة العربية، والتذمر المستمر من صعوبة اللغة العربية بين أبنائها.. ما يتطلب تأسيس المعلم وإعداده إعداداً جيداً، لتتناسب مهارته مع تعليم اللغة العربية أولاً، أو في تعليمها عن بعد في الحالات التي يتم التوجه إليها في التعليم كحل يفرض نفسه بناء على المعطيات الواقعية.

الرقعة الجغرافية

وذكرت أمل فرح، أن هناك مميزات لمفهوم التعليم عن بعد عموما - يأتي في مقدمتها اتساع الرقعة الجغرافية للتعلم - وكذلك حفظ المادة المتعلمة، وبالتالي سهولة الرجوع إليها. لكن بالنسبة للغة أظن أن أقصى ما يمكن أن يقدمه الوسيط الإلكتروني هو تعزيز التعليم، أو بالأحرى تعزيز التعلم.

أضم صوتي لكل من تحدث عن صعوبة التعليم عن بُعد، خصوصاً بالنسبة للأطفال، وهم الشريحة التي أشتغل بها وتشغلني. ذلك أن التعليم في حقيقته مسألة مركّبة لا تقتصر على منهج ميسّر، بقدر ما تضم منهجيات واستراتيجيات للتعليم، وتفاعلاً من نوع مختلف، فالتفاعل الإلكتروني فردي، وتعلم اللغة يحتاج لتفاعل جمعي، بمعنى يتعلم الأطفال اللغة من المعلمة، والزملاء، والأخطاء، والتنافسية، وتعمل ذاكرتهم بشكل أفضل في التواصل، ويعززون ما يتعلمونه باستخدام الوسائط والوسائل. تعلم الكتابة مثلا تحتاج للورقة والقلم فما زال القلم الالكتروني بدائي بدرجة تخجل المتعلم من خطه بالمقارنة مع {الكي بورد}، وبالنسبة للصغار هذا دافع رفض للتعلم وخبرة معطلة للاستمرار.

تعزيز التعلم هو ما يمكن أن نطلقه عن محاولات الجهات المختلفة لتعليم اللغة عبر الوسيط الإلكتروني، الذي ما زلنا نتعامل معه بعيداً عن طبيعته. فالمحتوى الصوتي والحركي وسرعة الأداء وإيقاع التعلم المقدم حتى الآن ينطلق من سمات الكتاب أكثر من سمات الوسيط الإلكتروني.

الخلاصة، أرى أن واقع التعليم عن بُعد ضعف في التجهيز، ومشاعية في الأداء بين الجيد، وغيره ما يقلل من فرص محبة اللغة أصلاً، وآمل بأن نوفر محتوى عربياً معززاً لتعلم اللغة من تسجيلات صوتية لديوان الشعر العربي، ونصوص بديعة تنم عنها، ومحتوى معرفي منوع بلغة عربية واضحة، والأهم معجم صوتي للغة العربية لتسهيل تعلم نطقها بشكل سليم، لمن يرغب في التعلم.

وختم الدكتور عيسى الحمادي، بقوله إن مناهج اللغة العربية هي أدوات المجتمع العربي؛ لتنشئة الأجيال ثقافياً، وحضارياً، فالغاية الأساسية من تدريس اللغة العربية، إرساء نظام لغوي في الذهن، وإقامة اللسان ملكة لغوية سليمة، وتطوير الإمكانات اللغوية للمتعلمين، وتحسين توظيفها بالشكل المطلوب، في العملية التعلمية خاصة، والتواصلية التداولية عامة.

توصيات الندوة:

  • أهمية إعداد برامج ومناهج لتعليم العربية لغير الناطقين بها.
  • عمل معجم إلكتروني للقائمين بتعليم اللغة العربية.
  • الاستفادة من التجارب الدولية بما فيها بعض التجارب العربية.
  • ضرورة تقويم التعليم عن بعد في مجالاته المختلفة من قبل علماء الاجتماع.
  • أهمية تنويع مصادر المعرفة الإلكترونية.
  • ضرورة تقديم أصحاب الفكر من علماء الاجتماع والنفس والتربية والاقتصاد لتقييم مدى كفاءة وفاعلية تطبيق التعلم عن بُعد على الأداء التعليمي للجهات المعنية، من متعلم ومعلم، وتأثيرها في ما هو مرتبط معها من حركة، حياتية واقتصادية وعمرانية وإنسانية وصحية، على المدى البعيد.
  • الاتزان أساس الحركة الحضارية، لذا يمكن الاستفادة من آليات التعلم عن بُعد واستخدامه في الاجتماعات الأسبوعية أو لزيادة تبادل الخبرات التعليمية أو للدورات التدريبية، مع المحافظة على واقعيتها للتفاعل الإيجابي في البيئة التعليمية وهي أساس تكوين الشخصيات، وهي أساس الحركة الحياتية والتعاملات الإنسانية.
  • تفعيل الألعاب اللغوية الإلكترونية وتحديثها، مع إعطاء فرصة لجميع الطلبة للتفاعل والمشاركة في ضوء تحديد أعداد قابلة للتقييم من الطلبة.
  • الاستفادة من تجارب الدول الأخرى ومدى فعاليتها وفق البرامج العلمية المختلفة: كتجارب كوريا الجنوبية وأستراليا والتجربة الهندية والصينية والتجربة الفلسطينية.

المشاركون:

  • د. بديعة الهاشمي أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الشارقة
  • د. عائشة الشامسي رئيسة قسم اللغة العربية وآدابها في كلية محمد بن زايد
  • د. علي عبدالقادر الحمادي الأستاذ الجامعي والكاتب وأمين سر جمعية حماية اللغة العربية
  • د. عواد الخلف مدير الجامعة القاسمية
  • د. محمد عناد سليمان أكاديمي وخبير لغوي في المعجم التاريخي للغة العربية في مجمع اللغة العربية بالشارقة
  • د. مريم الهاشمي الناقدة والأكاديمية بكليات التقنية العليا
  • أمل فرح كاتبة ومستشار وخبير تربوي
الصورة

أدار الندوة: د. عيسى الحمادي

مدير المركز التربوي للغة العربية لدول الخليج

أعد ورقة المحاور: السيد صدقي عابدين

أعدها للنشر: ليلى سعيد

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yc5mvp6x

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"