عادي

فوضى النقد الأدبي في عصر مواقع التواصل

22:52 مساء
قراءة 7 دقائق

الشارقة: «الخليج»

يوم أن كانت الكتابات النقدية الرصينة تغطي سماء الأدب، وتجري في الحياة الثقافية كنهر متدفق لا يتوقف، كانت الحياة الإبداعية تلمع تحت ضوء الكلمات، ولم يكن بإمكان شاعر أو قاص أو روائي أن يستريح تحت ضفاف ناعمة من دون أن تناله يد النقد، وتقول ما له وما عليه، لكن في زمن التواصل الاجتماعي، غفا النقد الأدبي، وأضحى بعيداً - كما تدل المؤشرات - عمّا هو متداول في ساحة الفكر الأدبي، ولم يعد هناك مقابل نقدي حقيقي لما ينتجه الكتّاب من أعمال، فما سر هذه الغياب في عالم النقد؟ ولماذا لم يعد له موقع في الحياة بالصورة الجادة التي كان عليها قديماً؛ حيث كان قلم الناقد هو الخاتم الذهبي الذي يدمغ به الأعمال الإبداعية بنبرته الحاسمة.

أصبح النقد في وقتنا الراهن أشبه بالمسكنات من وجهة نظر الكثير من المثقفين، فلا يكاد يلمس روح الإبداع، ولا يكاد يعبر عن ماهيته إلا قليلاً، وهو ما يطرح سؤالاً جاداً عن مكان النقد وموقعه في وقتنا الراهن؟ بخاصة في عصر الصعود الرقمي، ومواقع التواصل الاجتماعي، فالنقد كما هو معروف لا يزدهر إلا في ثقافة جادة، أما ثقافة تلك المواقع وما تفرزه من أدب، وما تحيط به من كتابات نقدية منسوجة على عجل، فهي في بعضها خفيفة، وفي أحيان كثيرة بلا رؤية.

في السطور الآتية نستطلع آراء كتّاب ونقاد وأدباء حول أسباب خفة النقد الأدبي، ولماذا يكاد يتلاشى في هذا العصر المتسارع، عصر التحول الرقمي الذي انجذب له الأدب في فضاء مفتوح لا أحد يعرف نهايته.

مسيرة

يقول الناقد د.هيثم الخواجة: «من البدهي أن يواكب النقد الإبداع، لكن المشكلة تكمن في أن ثقافة النقد لدى البعض لم تتغلغل إلى العروق، وتسكن الأفئدة خاصة في هذا العصر، والبعض يعد أن مهمة الناقد هي المديح، وحقيقة الأمر أن الناقد هو مبدع آخر للعمل الأدبي، فهو يتحمل الكثير من الجهود لتفكيك النص ومن ثم يضيء على إيجابياته، ولا بأس أن يذكر الناقد بعض السلبيات التي تسهم في تطوير مسيرة المبدع من باب الأمانة».

ويضيف: «النقد العادل والمنصف يهدف إلى الارتقاء والنهوض بالإبداع؛ لذا فهو من الأهمية بمكان، وغيابه يقلل من قيمة ما تمور به الثقافة من شعر، وقصة قصيرة، ورواية»، لافتاً إلى أن النقد أيضاً لكي يشغل وظيفته المكلف بها؛ فإنه يحتاج إلى استراتيجيات تتبناها المؤسسات الإعلامية، كالصحف والمجلات التي لم تعد تستقطب الناقد من أساسه؛ لذا يشعر الناقد أحياناً بأن هناك بيئة طاردة له، مما يضطره إلى أن يدير ظهره إلى وظيفته النقدية، علماً أن تشجيع الناقد المنصف، يدفع مسيرة الإبداع للأمام، وأن تقبل النقد من قبل المبدعين، يشجع الناقد على الاستمرارية والعطاء، ويرى أن الجدلية الحقيقية في هذا السياق، تتمثل في أن الكثيرين لا يعترفون بالنقد، ويهاجمون الناقد؛ إذا كان حديثه عن العمل الأدبي بالسلب؛ كونه يبرز العيوب والأخطاء، ويلفت إلى أن مواكبة النقد للإبداع في هذا العصر، أمر لا مراء فيه، فالنقد الحقيقي موجود ومستوعب عملية التطور في بنية الأدب، لكنه غير قادر على التوسع؛ بسبب البيئة الطاردة - في الوقت الراهن- التي قلصت مساحات النشر، وجعلت الكتابات النقدية في دائرة الإهمال.

ويوضح أنه يمكن للنقد أن يستفيد من التطورات التكنولوجية الحديثة في ترسيخ جذور أخرى؛ إذ تم تطويع التكنولوجيا في خدمة النتاج الأدبي والنقد معاً، أما أن تُكتب عبر مواقع التواصل التواصل الاجتماعي أسطر قليلة عن إبداع أدبي، ويقال هذا نقد فهذا ما لا يمكن أن يتقبله أحد، الأمر الآخر أن هناك فرقاً بين النقد الأكاديمي والانطباعي الصحفي، ولا شك أن النقد الحقيقي هو الذي يتناول العمل الأدبي بشكل كامل، ويقيّمه في النهاية بأسلوب متوازن.

وصايا

الشاعر أحمد المطروشي يجزم بأن النقد الحقيقي يمسك برقبة الأعمال الأدبية، ويقدم وصاياه الطيبة، وقد فسر هذا النقد على مدار تاريخه الكثير من ألوان الأدب، وأعطاه شرعية أخرى برؤاه الخالية من الهوى الشخصي، وهو ما نفتقده في هذه الأيام؛ إذ لم يعد يتداول على طاولة الأدب نقد جمالي في مجال الإبداع، وأسباب الغياب تكاد تكون معروفة؛ حيث لم نعد نجد ذاك الناقد الذي يتتبع الشعراء والروائيين وأصحاب السرد القصصي القصير، وأصحاب الأدب الحر، فغدا المشهد رمادياً وضبابياً، على الرغم من ازدحام الحياة الثقافية بالإصدارات الأدبية التي تمتلك فرادتها وحضورها، سواء لأسماء معروفة أو أخرى مغمورة، وهو أمر يمثل خيبة كبيرة في محيط الأدب الواسع، مبيناً أنه لا يقول إن النقد انتهى تماماً من الحياة المعاصرة، لكنه بهذه الكيفية في طريقة إلى الذوبان إن لم يجد من يعيد بلورته، ويستعيد صداه من ذاكرة الأدب المعاصرة، خصوصاً أن المسرح النقدي أصبح غريباً في هذه الأيام بما يتناوله من كتابات عن الأدب الغربي أو تناول سير الأدباء والشعراء الراحلين في عالمنا العربي، وكأن الحياة الأدبية الراهنة مفرغة من كتابات ثرية، فضلاً عن أن هذا الزمن الذي تتواصل فيه لغة الأدب عبر وسيط جديد وهو التواصل الاجتماعي الذي احتضن الأدباء الجدد، وأغفل عن محيطه الكثير من الأدباء الكبار، أصبح ملاذاً للتعريف بالأدب، لكن النقد غائب عنه أيضاً، ربما لأن حمولة ما تتناوله هذه المواقع من أدب خفيفة، ولا تغني أو تسمن من جوع في كثير من الأحيان، ما يجعل الأداة النقدية تُعرض عن هذا الإطار الرقمي، لكن المطروشي يرى أن هناك قطيعة حقيقية مع النقد في كل الحالات، وأن أداته لم تتجدد، ولم تعد قادرة على مجاراة الإبداع في الوقت الحالي، إلا لعدد قليل من النقاد الحقيقيين.

مواكبة

يدرك الناقد والباحث الأدبي محمد نور الدين أن غياب النقد يؤثر سلباً في المبدعين، ويفرغ الذاكرة العتيدة للإبداع، وما هو متداول في الحياة الثقافية من شعر وقصة ورواية، لكنه يشعر بأن تقليص المساحات في الصحف أمام النقاد، أسهم في خفوت الأداة النقدية، ومن ثم فقدها لشهية الكتابة، بخاصة أن الناقد هو قاض للأعمال الأدبية بما يمتلك من فراسة ووعي وقدرة على قراءة الإبداع بوجه عام، وأن هذا الناقد يحتاج إلى أجواء تهيئ له الانتشار، وكانت الصحف من أهم المنافذ التي رعت النقد والنقاد في أزمان سالفة، ما انعكس بالإيجاب على هذا الجانب، لكن في هذا العصر أصبحت الأبواب مغلقة، والحوافز المادية قليلة، ومساحات النشر تكاد تكون معدومة إلا في عدد قليل من الدوريات المتخصصة في الصحافة الثقافية، إضافة إلى أنه على الرغم من أن الجامعات تفرغ سنوياً عدداً لا بأس به من المتخصصين الأكاديميين، فإن المواهب الحقيقية في النقد أصبحت نادرة ولم يعد الكثير ممن يشتغلون بهذه المهنة يعملون على تسليح أنفسهم بمناهج حديثة في النقد؛ لذا لم تتطور الأداة النقدية ولم تواكب الإبداع الأدبي في هذا العصر، لافتاً إلى أن ضمور النقد بهذا الشكل وعدم قدرته على التحليق في سماء الإبداع يدعو إلى الأسى، بخاصة أننا في زمن الثورات المعرفية المرتبطة بالقفزات الإلكترونية؛ إذ أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي تغري الأدباء فأصبح الكثير منهم يبحث عن الترويج لأدبه من خلالها، وفي المقابل هناك حقيقة لا مناص من ذكرها؛ وهي أن النقد بمحيطاته الواسعة ينأى إلى الآن عن إيجاد مكان له على خريطة التواصل الاجتماعي لكونه لم يتجدد هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن الكتابات النقدية الجادة من الصعب أن تنخرط في التعبير عن نفسها عبر هذه المواقع، لأنها تشعر بأنها أكبر منها بكثير.

تجريب

ويبين رئيس مجلس إدارة جمعية الناشرين الإماراتيين عبدالله الكعبي أن النقد الأدبي حالياً ينزع للتجريب، ولم تعد له أسس ثابتة، وهو ما أعطى الفرصة لكل من لا يمتلك الأداة النقدية السليمة في أن يخوض غمار إصدار الأحكام على الأعمال الأدبية، ما أثر بشكل سلبي في مسيرة النقد المعاصر، وأصبحت الساحة حالياً تعاني فقراً في النقد إلا ما رحم ربي وهو ما جعل حال النقد في الوقت الحالي لا يسر، ويرى الكعبي أنه لكي ينهض النقد مجدداً - في ظل الطفرات الإبداعية في الأدب وما يواكبها من طفرات أخرى مرتبطة بالتطور التكنولوجي - يحتاج إلى مظلة جديدة لا تكتفي بإطلاق جوائز ومسابقات للنقاد، ولكن بالتأسيس الجيد لهذا العلم، واستقطاب المواهب الحقيقية ومنحها مساحات في الإعلام بوسائله كافة لكي تنتشر على نطاق واسع؛ إذ إن العالم العربي يعيش أزمة حقيقية في ميدان النقد منذ سنوات، وأن أساليب الأداة النقدية في هذا العصر، أصبحت تشبه إلى حد كبير المتون القديمة، في حين أن لغة الأدب العربي في الشعر والقصة والرواية قفزت وحلقت بعيداً عمّا كان مألوفاً، وبشكل مغاير أيضاً وهو ما يتطلب حراكاً نقدياً يستوعب أفق الأدب وظواهره المتحررة في هذا العصر من القوالب الجاهزة.

وأشار الكعبي إلى أن إعراض المؤسسات الثقافية عن نشر كتابات النقاد لا يمكن أن يكون السبب في ضعف الأداة النقدية وأن تمسك بعض النقاد بهذا الأمر والوقوف عليه هو كلام مفرغ من معناه، لأننا درجنا منذ القدم على أن الناقد الحصيف هو الذي كان يذهب خلف كل عمل أدبي جيد لكي يقول عنه كلمته ويقولها في أي مكان وبأي وسيلة، لكننا حالياً نتحدث كثيراً بشكل نظري عن تطوير النقد والأمل في عودته للمناخ الأدبي - بروح جديدة - دون أن نشخص أسباب التراجع، ونضع أيدينا على أسباب الغياب غير المنطقي. ويذكر أن الأدب العربي حالياً يعيش غربة نقدية لم تحدث من قبل، وأنه يجب استثمار كل الوسائل التكنولوجية المتاحة أيضاً من أجل أن يجد النقد له مكاناً في عصر الذكاء الاصطناعي، والتقدم الكبير في الأدب الرقمي، وبما لا يضعف هيبة النقد وجديته وحياديته أيضاً.

تحليق

تذكر الباحثة والناقدة الدكتورة وضحى حمدان الغريبي، أن الأداة النقدية أصبحت معنية بحركة التجديد في الأدب العربي، فنحن في هذا الزمن أمام صيغ وتراكيب وأساليب أدبية جديدة لم تكن معروفة من قبل، وهو ما يتطلب وجود نقد جمالي أكاديمي قادر على التحليق مع ما ينتجه الشعراء والكتّاب من أعمال تتسم بالغرائبية في كثير من جوانبها، وحققت حضوراً ملموساً في الواقع الثقافي، مشيرة إلى أن هناك أيضاً أنماطاً أدبية أخرى لا تلامس الإبداع في شيء، وتنم عن فوضى في التناول، وعدم قدرة على التحليق في سماوات الإبداع، لكن على الرغم من التباين في لغة الأدب ما بين القوة والضعف، فإنه يجب الاعتراف بأن هناك مشهداً آخر يتشكل على ضفاف الحياة الأدبية المعاصرة له جمالياته الأخرى، ويجب أن تلامسه روح نقدية متأملة تماثله في القوة والجمال، فلا يمكن أن يغض النقد الطرف عن النغم الصاخب الذي تبلوره لغة الأدب الفارقة حالياً باتجاهاتها كافة. ومن جهة أخرى ترى د.وضحى الغريبي أن التقاعس النقدي الحالي يجب أن يواجه بتحفيزات جادة حتى يعود إلى منصته الحقيقية ويستوعب جماليات العصر.

الصورة
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/3bhju98y

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"