تمدد الجغرافيا وتقلص الدولة

00:03 صباحا
قراءة دقيقتين

واحدة من سمات عصرنا العربي في السنوات الأخيرة، خروج الدولة الكلّي أو الجزئي عن الخدمة، لمصلحة تمدّد االجغرافيا، في الدول التي انهارت أنظمتها السياسية، أو نال منها الضعف، بسبب الاقتتال الداخلي، والاضطرابات التي رافقته، وصعود نزعات مضادّة لفكرة الدولة، تمثلها خارطة الميليشيات والميليشيات المضادّة، المنتشرة في غير بلد عربي، واستعانة بعض الجيوش النظامية بقوى مسلّحة من خارج المؤسسة العسكرية، بعد أن أصبحت هذه القوى جزءاً لا يتجزأ من خارطة النفوذ.

التعريف التقليدي للدولة بأنها «مساحة من الأرض معترف بها دولياً، والشعب، ووجود سلطة سياسية»، وهذا التعريف على الرغم من عموميته، إلا أنه يحدّد على المستوى القانوني مسألة الشرعية، وذلك من خلال الاعتراف الدولي بحدود الدولة، وسلطتها السياسية، ويمكن بالقياس إلى هذا التعريف، قراءة التحوّلات التي مرّت بها عدّة دول في منطقتنا، ابتداءً من العراق بعد الاحتلال الأمريكي له في عام 2003، والذي شرّع الأبواب أمام تجربة الفوضى على نطاق واسع، وصولاً إلى السودان الذي انزلق إلى حرب أهلية في عامه الأخير.

لا تزال التجربة العراقية، بأبعادها الداخلية والخارجية، وعلى الرغم من الكمّ الكبير من الدراسات والأبحاث حولها، غنية بالدلالات التي لم تُسبر بشكل نهائي، إذ إن الواقع العربي، بما شهده من انهيارات، يزيد مع الوقت أهمية إعادة قراءة هذه التجربة من جديد.

في كل تراجع لسلطة الدولة في تقرير مصير الحياة العامة، تزداد فرصة واحتمالية نشوء قوى جديدة، غير نظامية، تقوم بملء الفراغ، في مستويات عديدة، بدءاً من الفراغ الأمني، وصولاً للفراغ الخدمي، ويصبح هذا الاحتمال أمراً واقعاً في حال وجود عوامل داعمة، أهمها قدرة القوى الجديدة الناشئة على إقامة تحالفات عابرة للحدود الوطنية، وتأمين ريع مالي، لسدّ احتياجاتها، وشراء الولاءات الضرورية.

نشوء سلطات «الأمر الواقع» متعدّدة، هي الظاهرة الأبرز اليوم في بلدان غابت عنها الدولة، وسلطتها المركزية، مع تنازع بعض السلطات على الشرعية، كما في ليبيا والسودان، ولكلّ منها قواتها، وتمويلها، وعلاقاتها الخارجية، والأمر ذاته، موجود في سوريا، حيث تتحالف الفصائل في الشمال الغربي للبلاد مع تركيا، بينما تستظلّ «قوات قسد» في الشمال الشرقي بشرعية التحاللف الدولي لمكافحة الإرهاب، وعماده الأساسي القوات الأمريكية، بينما تتصارع في جنوب البلاد فصائل محلية وقوى عشائرية.

وإذا كان تقسيم الجغرافيا بين سلطات الأمر الواقع هو النتيجة المنطقية لتقاسم نفوذ القوى المتصارعة، إلا أن هذا التقسيم هو في حقيقته تمدّد لمفهوم الجغرافيا على حساب الدولة، فليست الجغرافيا مجرد حساب كمّي للأرض بالكيلومترات، وإنما توصيف لظاهرة وطنية وسياسية.

هذا الواقع الناتج عن استمرار الاقتتال الأهلي، أو تجميد الصراع، من دون حلّ سياسي، يسهم في نشوء وضع جديد متعلّق بتشظي الانتماء الوطني في الجغرافيات المتعدّدة للدولة، إذ تنشأ سمات جديدة للولاءات، تبعاً للجغرافيا، وما تتضمّنه من انتماءات عقائدية، انتعشت مع التقلّص التدريجي للدولة ومؤسساتها، وحلّت كروابط لتعريف الذات، بديلاً عن الهوية الوطنية الجامعة، التي تصونها الدولة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/5d9rsyxu

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"