طوفان التحرر الإفريقي

00:16 صباحا
قراءة 3 دقائق

وقفت العدالة الدولية على قدم وساق في لاهاي يوم الجمعة الماضي عندما انتصب الفريق القانوني لدولة جنوب إفريقيا مقدّماً سيلاً من التفاصيل حول جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة، التي لم يستطع القضاة الخمسة عشر إلاّ أن يقفوا مشدوهين أمام هول ما يسمعون، وأمام عجزهم عن دحض أي من تفاصيلها أو عناوينها.

ومهما كانت ردود الفعل الغربية على الدعوى التي تقدمت بها جنوب إفريقيا، إلاّ أنّه لا أحد بإمكانه أن يطعن في مشروعية الخطوة التي تأتي من دولة ناضلت لعقود للتحرر من نظام التمييز العنصري الذي أرسته بريطانيا. اليوم وأمام اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، يقف الغرب من دون بقية دول العالم ضد العدالة الدولية، ويشوّه دولة جنوب إفريقيا التي مارسوا فيها أبشع أنواع التمييز العنصري ضدّ الشعب الأصلي، ويسعون إلى إسكات كل الأصوات الدولية التي ترتفع مساندة للشعب الفلسطيني الأعزل في مقاومته للاحتلال وفي صموده من أجل رفض التهجير والتقتيل. هذا الغرب الاستعماري هو ذاته الذي يحشد طواقمه العسكرية لضرب اليمن، بعد أن خرب دولاً مثل العراق وسوريا وليبيا.

يمكننا أن نفهم كل هذا التحامل على جنوب إفريقيا، فهذه الدولة هي دولة قائدة في القارة الإفريقية وهي عضو مؤسس لمنظمة «البريكس». ولكن المسألة هي أكثر عمقاً، وأكثر خطورة، فبلد مانديلا يحمل راية التحرر في القارة الإفريقية، وهو يتحول إلى بلد «قاطرة» ليس فقط لشعوب إفريقيا بل حتى لشعوب العالم للتحرر من الهيمنة والاستعباد. كانت سنة 2023 سنة انهيار القبضة الغربية على إفريقيا، فسقوط أنظمة تابعة للغرب وبقوة السلاح أي بالانقلابات العسكرية وصعود أنظمة ليس فقط معارضة للهيمنة الغربية بل مصطفة في ما بات يعرف بمحور العالم الجديد، جعل دوائر القرار الغربية تقف موقف الحيرة من هذا التمرد الإفريقي الذي يهدد مصالحهم بشكل جدّي. وربما تكون بعض الدول الإفريقية قد تأخرت عن باقي البلدان في كنس الاستعمار، ولكن الزخم الذي شهدته إفريقيا منذ سنوات للتخلص من الإرث الاستعماري الذي جثم على صدور الأفارقة لعقود طويلة أصبح قوياً جداً؛ ما يؤذن بولادة عصر التحرر وبناء دول قائمة الاستقلال بعيداً عن التسلط ونهب الثروات كما يحصل في النيجر التي منعت تصدير اليورانيوم وغيره من المعادن إلى فرنسا منذ الأيام الأولى للانقلاب، وهذا ما أثار حفيظة حكومة ماكرون لأنها تعتمد بشكل أساسي على اليورانيوم النيجري في تأمين الطاقة، ومثلما فعلت بوركينا فاسو ومالي اللتان رفعتا شعار «تسقط فرنسا».

يعرف الأفارقة أن الثمن الذي قد يدفعونه سيكون باهظاً، فمعركة التحرر الكامل ليست مسألة هيّنة، وربما لخص سيريل رامافوزا رئيس جنوب إفريقيا ذلك وهو يعلق على لجوئهم إلى محكمة العدل الدولية، في قوله «الخطوة التي اتخذناها محفوفة بالمخاطر، فنحن بلد صغير ولدينا اقتصاد صغير، وقد يهاجموننا، لكننا سنظل متمسكين بمبادئنا، ولن نكون أحراراً حقاً ما لم يتحرر الشعب الفلسطيني أيضاً». طوفان التحرر الإفريقي لا يكتمل إلاّ بتحرر الشعوب المقهورة وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني، ولذلك نقول، من عقر دار الغرب وفي مقر محكمة العدل الدولية، لا يمكن للحقيقة إلاّ أن تخرج منتصرة، فليس هناك عاقل يمكن أن ينكر جرائم الإبادة ضد الإنسانية المرتكبة في أرض فلسطين المحتلة.

ومن عقر دار الهيئات التي اتخذوها ستاراً لمنع إدانتهم، لا يمكن لهذا العالم إلاّ أن يستخرج شهادة وفاته. من لاهاي تحديداً، ليس هناك خيار بديل إلاّ إعلان موت الغرب الاستعماري. ولا يمكن إلاّ أن تولد من رحم لاهاي إفريقيا جديدة حرّة وكاسرة لقيود الهيمنة. عندما وقف أحفاد مانديلا، في قلب أوروبا رافعين لواء الدفاع عن العدالة الدولية فإنّهم دافعوا عن تحرر الشعوب من الهيمنة الغربية الممتدة منذ قرون من الزمان. وهل أقدر على القيام بهذه المهمة من شعب استطاع بعد صبر طويل أن يسقط نظام التمييز العنصري المقيت.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/34wdac6e

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"