الجوع.. صناعة بشرية

00:06 صباحا
قراءة 3 دقائق

كمال بالهادي

عندما صدر كتاب «صناعة الجوع، خرافة الندرة»، للباحثَين فرانسيس مور، وجوزيف كولنز، في عام 1983، لم تكن العولمة قد ظهرت للعيان، ولم تكن الحرب الباردة وضعت أوزارها بعد، ومع ذلك، فقد كان كتاب «نبوءة» اقتصادية وسياسية، بحث فيه الكاتبان مسائل تتعلق بكيفية صناعة الجوع، وضرب سلاسل التوريد والتوزيع غير العادل للأراضي بين الأغنياء والفقراء، وكيفية ضرب صغار الفلاحين ومنعهم من الاستقرار في مواقعهم نتيجة المضاربات التي تجعل العمل الزراعي قطاعاً غير جاذب، خاصة للفئات الشابة، وتجعل الأرياف طاردة لساكنيها.

ما دفعنا إلى تذكّر هذا الكتاب هو الانتفاضة التي قادها المزارعون في أوروبا احتجاجاً على المعاملات غير المنصفة في شأنهم، والتي تجعل أعمالهم غير مربحة، وهكذا يضطرون إلى ترك مهنهم، والتخلي عن قطاع يؤمّن الغذاء للأفواه الجائعة التي تنتخب سياسيين لا يولون القطاع الزراعي أي أهمية في برامجهم السياسية.

ففي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، تحرك المزارعون مطالبين بعدالة في الأسعار، وطالبوا بوقف جشع المساحات التجارية الكبرى التي تتلاعب بالأسعار، وتؤثر في مداخيلهم بصفة يعتبرونها مهددة لأرزاقهم.

متحدث باسم وزارة البيئة والغذاء والشؤون الريفية البريطانية قال إنه «من الصواب أن يحصل المزارعون البريطانيون على أسعار عادلة، ومراجعتنا لعدالة سلسلة التوريد ستساعد على معالجة هذه المخاوف». ويبدو أن ما سمّته وسائل الإعلام الغربية ب«ثورة المزارعين»، هو في الحقيقة انتفاضة اجتماعية لقطاع ظل دائماً في مرتبة متأخرة في السياسات الدولية، وفي سياسات الحكومات المحلية. غير أن أصوات المزارعين الأوروبيين التي اجتمعت في الآونة الأخيرة، ليست إلا بداية تحرك ضخم سارعت الحكومات لخفض مستواه التصاعدي، كما حدث في فرنسا. فالمزارعون الفرنسيون يرون أنه «يجب على الحكومة أن تستمع إلينا لتأمين دخلنا، في المقام الأول عن طريق خفض الضرائب، والعمل على ضبط هوامش الربح التي يحققها كبار تجار التجزئة».

وجميعنا يدرك أهمية هذا القطاع ومدى تأثيره في الأوضاع الاجتماعية، والاستقرار الدولي، وإن يتحرك الأوروبيون رفضاً لقوانين تعطل العملية الإنتاجية فهذا يعني أن العالم يعيش أزمة عميقة تتعلق بسلاسل الإنتاج الغذائي، فضلاً عن الشواغل العميقة الأخرى، مثل النزاعات والحروب، فالعالم شهد منذ سنة تقريباً تهديداً جدياً بمجاعة كبرى لولا اتفاق الحبوب الذي تم توقيعه بين روسيا وأوكرانيا، والذي سهل حصول الدول الفقيرة على احتياجاتها من الغذاء، ما قلّص من حدة خطر التهديد بالمجاعات.

ويجدر التذكير بأن التقرير الأممي الصادر في شهر يوليو/ تموز، من السنة المنقضية، حول الغذاء والتغذية في العالم يشير إلى ان نحو 783 مليون شخص في العالم يعانون نقصاً واضحاً في الغذاء، وإذا ما أخذنا في الاعتبار التأثيرات السلبية للجوع في هؤلاء الأشخاص سيكون لدينا ذات الرقم من الفقراء والأميين والأشخاص الذين يعانون أمراضاً وعللاً مستدامة. فالجوع ليس مجرد شعور بالنقص في الغذاء، بل هو واقع مؤلم يعيشه الأفراد، ما يدفعهم إلى النزوح عن مواطنهم الأصلية، وبالتالي تتفاقم ظواهر النزوح، والهجرة غير الشرعية.

وفي كثير من الدول المتوسطة الدخل والتي لا تحتوي على ثروات طاقية مهولة، توجد ثروات زراعية ضخمة، ولكنها مهدورة، وتجد الشباب عاطلاً عن العمل لأنه لا يريد هذه المهنة الشاقة. وبرغم الطفرة التكنولوجية إلا أن القطاع الزراعي لم يعش بعد، في أغلب دول العالم، تلك الثورة التقنية التي تعزز سيطرة الإنسان على الطبيعة، وتحسين استغلال الموارد بما لا يجعل الزراعة مستنزفة للتوازنات البيئية، كما تفعل الآن الشركات الزراعية الكبرى.

وبرغم الجهود التي تبذلها الجهات الدولية، مثل المنظمات الأممية المهتمة بالزراعة والغذاء، وعلى رأسها منظمة «الفاو»، إلا أنه لا شيء يؤكد أن العالم سينجح في تحقيق أهداف العشرية الثالثة في القرن الحادي والعشرين، والتي رفع لها شعار «صفر جوعى في أفق سنة 2030».

الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، قال في كلمة ألقاها في مؤتمر انعقد مؤخراً، في إيطاليا حول الأمن الغذائي العالمي «في عالم تسوده الوفرة، من المشين أن تستمر معاناة أشخاص من الجوع والموت جوعاً». ولكن هذه هي الحقيقة التي لم تعد تهدد الدول الفقيرة أو متوسطة الدخل فحسب، بل إنها تمسّ الدول الغنية أيضاً. وما الاحتجاجات التي تشهدها أوروبا إلا دليل واضح على أن ما من أحد بمأمن من خطر الجوع في المستقبل، بخاصة في ظل التغيرات المناخية القاسية التي تمس مساحات واسعة من الكرة الأرضية، وتؤثر في خصوبة الأراضي، وتهدد الملايين من مواطني العالم بفقدان ليس فقط موارد رزقهم، بل يهدد أيضاً غذاءهم واستمرارية حياتهم. إن انتفاضة المزارعين الأوروبيين ومطالبتهم بالعدالة، تثبت فكرة رئيسية قام عليها كتاب صناعة الجوع، وهي أن الجوع هو صناعة بشرية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/5996yrka

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"