العقدة الإثيوبية.. وظلم الجغرافيا

00:34 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. محمد سيف الجابري*

تمثل الموانئ البحرية في إفريقيا مدخلاً قوياً للنفوذ العسكري والاقتصادي لأغلب القوى الدولية الطامحة إلى موطئ قدم لها لتعزيز نفوذها ومصالحها الاستراتيجية والاقتصادية، وخاصة في منطقة القرن الإفريقي، لما لها من أهمية استراتيجية تفوق إمكانات دول القرن نفسه؛ فسعت تلك القوى إلى الاستحواذ على تلك الموانئ، لتطوير تجارتها مع القارة الإفريقية أو لتدشين قواعد عسكرية لتعزيز الحضور الدولي أو الإقليمي، وهو نفسه حلم الدولة الإثيوبية الذي يداعب مخيلتها منذ استقلال إريتريا أو انفصالها عن الجسد الإثيوبي، حتى صارت حبيسة الجغرافيا، فكانت تلك عقدتها التي رأت فيها العائق الوحيد والأهم، بينها وبين دورها الإقليمي الرائد، وهي مؤهلة له بوصفها الدولة الإفريقية الأكبر تعداداً للسكان والمؤثرة في القرار الإفريقي والأقوى عسكرياً واقتصادياً في الشرق الإفريقي الذي بات منطقة تكالب دولي.

وقد عبر آبي أحمد رئيس الحكومة، في خطابه أمام البرلمان الفيدرالي، في أكتوبر(تشرين الأول) الماضي، عن مدى مصيرية اتصالهم بالبحر بقوله «كيف لبلد يخطو حثيثاً ليصل عدد سكانه إلى نحو 150 مليوناً، أن يعيش سجيناً للجغرافيا؟ إن وجود إثيوبيا مرتبط بالبحر الأحمر وينبغي ألا يكون هذا الارتباط قضية للمناقشة».

ومنذ ذلك اليوم باتت دول الجوار الإثيوبي الثلاث والفاصلة بينه وبين البحر الأحمر وخليج عدن (جيبوتي والصومال وإريتريا) تتوجّس خيفة، لاسيما بعد أن تردد أن أديس أبابا، عازمة على اقتناص نافذة بحرية ولو بالقوة المسلحة، حتى بعد أن صرحت «صومالي لاند»، وأديس أبابا في غرّة يناير(كانون الثاني) الماضي، عن توقيع مذكرة تفاهم لإعطاء هرجيسا لأديس أبابا حق انتفاع طويل الأمد بميناء بحري يمكّنها من تدشين قاعدة بحرية للأسطول الذي تسعى لإنشائه منذ سنوات في أحد موانئ جيبوتي.

وغير خفي ما كان لهذا الإعلان من نتائجه الإيجابية على الوضع الداخلي في إثيوبيا التي رآها بعضهم تصحيحاً لبعض الحسابات السياسية الخطأ وكانت نتيجته احتباسها عن البحر في 1991، في حين رآها آخرون هروباً إلى الأمام من معضلات داخلية واحتواء تداعي المؤسسات في الدولاب الرسمي الفيدرالي، وهو ما يدعونا للبحث في الأسباب والدوافع خلف تلك المذكرة، ومع ذلك الإقليم الانفصالي غير المعترف به.

ذهب المحللون إلى أن هناك الكثير من الأسباب والدوافع المتنوعة التي تقف خلف سعي أحمد لمفاجأة الإقليم بهذه المذكرة ولعل أهمها:

- اهتراء الخريطة السياسية الداخلية والتردي الاقتصادي، فجاءت المذكرة هدفاً قومياً وجودياً يجمع الشعب حوله تماماً، كما فعل في ملف سد النهضة.

- تأزم الوضع الداخلي في إقليم «صومالي لاند»، اقتصادياً وسياسياً، خاصة بعد مسألة رأس عانود وميدان غوجعدي؛ فرأي النظام هناك التشبث بجار عفيّ يحميه ويكسبه بعض الشرعية باعترافه به.

- أعدت إثيوبيا أسطولاً بحرياً بدعم فرنسي، منذ نحو ثلاث سنوات لتفعيل حضورها الإقليمي، وكان ينقصها ميناء للتموضع.

- ترى أديس أبابا في هذا الاتفاق الأقل كلفة في تحقيق الحلم المصيري، وكذلك مهارية اختيار موقع قريب من ميناء جيبوتي الذي تعتمد عليه أديس أبابا، بنسبة 95% في اتصالها التجاري بالعالم الخارجي.

- ترى إثيوبيا في دول الجوار البحري الثلاث (جيبوتي والصومال وإريتريا) التي تمثل أقل من ثلث تعدادها السكاني مجتمعة، لديهم وفرة ساحلية تزيد على خمسة آلاف كلم، وهو يمثل ظلماً جغرافياً بيّناً، ولا بدّ من تغييره.

- ترى أديس أبابا، أنه يجب التعاطي مع منطقة القرن الإفريقي كوحدة جيوسياسية متجانسة تتولى هي الدور الأبرز فيها «تمثلها»، ومن ثم يجب إعادة توزيع مِنَح الطبيعة وفق الاحتياجات.

وتحمل تلك الخطوة الكثير من الانعكاسات إقليمياً أو دولياً:

- إقليمياً: عمّقت تلك الخطوة أزمة الثقة التي تعتري دول الجوار الإثيوبي المباشر؛ ففيما يخص جيبوتي وهي راعية للمفاوضات بين هرجيسا ومقديشيو، ترى أن إثيوبيا قد عمدت بتلك الخطوة إلى إلحاق الضرر السياسي بها، بوأد المفاوضات، وكذلك اقتصادياً بإلغاء الممرّ البرّي لأديس أبابا في الداخل الجيبوتي، الذي ينقل احتياجاتها السنوية مقابل ريع سنوي وقلقها أمنياً، أيضاً، من تموضع أديس أبابا عسكرياً، بجوار موانئها. أما الصومال فقد رأت في ذلك محاولةً استعماريةً من أديس أبابا، وتعدّياً على جزء من أرضها الوطنية.

- دولياً: وجدت تلك المذكرة معارضة دولية ملحوظة من أكثر من جهة؛ فعربياً اعترضت جامعة الدول العربية على ذلك، حيث وصفتها بالخطوة الاستعمارية بالاستيلاء على أرض عربية، بمساعدة فصيل انفصالي غير معترف به. في حين تبنّت القاهرة نهجاً أكثر حدة، بسبب قضية مياه النيل وسدّ النهضة، فذهبت إلى استعدادها لمساعدة الصومال في الحفاظ على ترابها الوطني حال طلب منها ذلك. كذلك جاء موقف الأمم المتحدة رافضاً لتلك الخطوة، لأن نظام «صومالي لاند»، غير معترف به، ولذلك تأتي المذكرة غير شرعية.

إن مسألة الظلم الجغرافي الذي تراه أديس أبابا، والمصحوب بطموحات رأس النظام، لن تردعه اعتراضات بعض المنابر الإقليمية والدولية، في ظل انشغال العالم بقضايا أهم، رغم أنها تطرح الكثير من المخاوف والتداعيات، في ظل أجواء عالمية متوترة بالأساس.

* خبير متخصص في الشؤون الإفريقية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/3fyuaaz7

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"