لماذا تفشل الأمم الغنية؟

22:05 مساء
قراءة 3 دقائق

د. عبد العظيم حنفي *

في كتابه الشهير «المجتمع الغني» (1958)، حلل الاقتصادي الأمريكي جون كينيث جالبريث تناقضات التطور الرأسمالي. تُثري الرأسمالية البشرية بفضل كفاءتها وإنتاجيتها الممتازة، لكنها تشجع الاستهلاك المفرط عبر الإعلانات، للمساعدة في معالجة مشكلة الحصول على عرض أكثر من الطلب. لكن فئة الدخل المنخفض لا تستطيع شراء الكثير لأن قوتها الشرائية ضعيفة. قد يبدو المجتمع ثرياً من الخارج، ولكن يمكن أن يعاني مشاكل متفاقمة تتعلق بالاستهلاك غير المتوازن والاستقطاب الاقتصادي.

في كتابه «ثمن الرخاء»، يوضح تود ج. بوخهولز Todd G. Buchholz، أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد والمدير السابق للسياسة الاقتصادية في البيت الأبيض في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، مفارقة الثراء من خلال عدسة تاريخ العالم. كما يوحي عنوان الكتاب، كلما ازدهرت الدولة، زاد فقدانها للوطنية والشعور بالانتماء إلى المجتمع. كما يكشف عن التصدعات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي تواجهها الدول الغنية. ويقول إن فقدان المجتمع، وانكماش سوق الوظائف، والمخاوف من الهجرة، وتصاعد العولمة، والحزبية السامة -وهو الثمن السلبي للازدهار غير المسبوق- تدفع هذه الدول إلى حافة الهاوية. وكما يوضح بوخهولز، فإن الولايات المتحدة ليست الدولة الأولى التي تعاني هذه التصدعات. عبر دراسة مصائر الإمبراطوريات السابقة، تلك التي سقطت وكذلك تلك التي تم تخليصها من شبه الانهيار وأطلال الحرب بفضل رؤية وجهود القادة الأقوياء. ثم يحدد ما يفعله القادة العظماء لدرء القوى التي تمزق الأمم.

يرجع سقوط الإمبراطورية الرومانية إلى حد كبير إلى أسلوب الحياة الفاخر للأرستقراطيين، ولكن ماذا عن انهيار أسبرطة؟ يعزو البروفيسور بوخهولز ذلك إلى الانخفاض الحاد في عدد سكانها، حتى 80 في المائة في القرن الرابع قبل الميلاد. كان الأسبرطيون الذين لا يقهرون مدمنين على غنائم الحرب، مثل العبيد وزيادة الثروة، لكن ذلك أدى إلى انخفاض معدلات المواليد. إذا كان لديهم العديد من الأطفال، فلن يتمكنوا من تحمل كلف السفر المتكرر أو أنماط الحياة الفاخرة، ناهيك عن المخاوف بشأن تقسيم الممتلكات. انهارت أسبرطة بعد أن انخفض عدد سكانها بشكل حاد إلى درجة عدم القدرة على الحفاظ على جيشها.

في عام 1982، في كتابه صعود وتدهور الأمم، تصدى الاقتصادي «مانكور أولسون» لمحاولة تفسير أحجية. فقد كابدت ألمانيا واليابان دماراً واسع النطاق في الحرب العالمية الثانية، لكن في السنوات التالية للحرب شهد البلدان نمواً اقتصادياً إعجازياً. بينما، على الجانب الآخر، وجد أن بريطانيا التي انتصرت في الحرب ودون ضرر كبير في مؤسساتها، قد دخلت، على الفور، في فترة من النمو الاقتصادي البطيء، ما جعلها تتأخر عن الديمقراطيات الأوروبية الأخرى.

كما تطرح دراسة كورية حديثة سؤالاً عن كيف ينبغي للكوريين أن يصمموا مستقبل بلادهم بعد حقبة ما بعد الثراء؟ فعلى الرغم من كون كوريا من بين أكبر 10 اقتصادات في العالم ودولة ذات متوسط عمر مرتفع للغاية، فإنها تواجه أعلى معدلات الانتحار في العالم بين كبار السن وأقل معدل مواليد في العالم، وترجع الدراسة ذلك إلى وصول الصراع بين الأجيال إلى مستوى خطر في كوريا؛ فكوريا بلد يعيش فيه أجيال متباينة أكثر من أي دولة أخرى تعيش معاً بعد تحقيق نمو اقتصادي سريع. ليس من السهل عليهم أن يفهموا بعضهم بعضاً. ما يغذي تقسيم المجتمع الكوري؛ فهناك الأشخاص في الستينات والسبعينات من العمر كانوا يعيشون في بلد متخلف، وأشخاص في الأربعينات والخمسينات من العمر في دولة نامية، وأولئك في العشرينات والثلاثينات من العمر يعيشون في دولة متقدمة. ويمتلئون بالثقة كأعضاء في دولة متقدمة.

المجتمع الأمريكي ليس استثناء. لا يزال التمييز العنصري يتفاقم في جميع أنحاء البلاد، خاصة بعد أن فرض دونالد ترامب -أثناء فترة حكمه- قيوداً على الهجرة. بينما تعمل الرأسمالية الجشعة، إلى جانب التحول الرقمي، على تعميق فجوة الثروة، تتبدد القيم التي كانت ذات يوم مثل الوطنية والأخلاق البروتستانتية والشعور بالوحدة. كما أشار البروفيسور روبرت بوتنام من جامعة هارفارد في كتابه «Bowling Alone»، إلى عمليات إطلاق النار التي لا تنتهي، ورفض قبول نتائج الانتخابات، والتحريض من خلال الأخبار الكاذبة، والتشجيع السياسي المتطرف، ما يهدد الديمقراطية الأمريكية المكتسبة بشق الأنفس.

* أكاديمي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/yc66nhfy

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"