الصراعات التكنولوجية في عالم اليوم

00:38 صباحا
قراءة 4 دقائق

محمد خليفة

العديد من الخبراء والأكاديميين والإعلاميين الذين يرصدون التوقعات الدولية، يقولون إن السباق التكنولوجي بين الدول الكبرى سوف يكون المحرك الحقيقي للعديد من الصراعات بينها، في الأعوام المقبلة، وسوف يكون ذلك السباق بالغ التعدد والتعقيد بفعل التحولات السياسية والتكنولوجية والاقتصادية التي تحدث في العالم.

إن جوهر القضية الأساسية التي تشغل العلماء والمفكرين يتمثل في كيفية التوفيق بين العالم الخارجي، الذي يتحكم فيه الزمان ويخضع للصيرورة والتبدل، وبين العالم الداخلي الذي يتوجب أن يتحول فيه كل تبدل وتغيّر إلى نظام، وبالتالي يحافظ على التوازنات بين الوجود والصيرورة والقيم الرفيعة المعيشة. فلم يعد الإنسان، بعد كل هذه التحولات السياسية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، ذلك الكائن السليب الإرادة المحمول على أمواج الظروف، نتيجة تطورات الأحداث في ميدان التحولات السوسيولوجية، وانتقال الأمم من طور التعاون إلى طور التكامل والانعطاف بالعالم نحو حقبة من التعايش والتواصل والوفاق، بسبب التطورات المتلاحقة التي أوجدت مفاهيم جديدة، فنية وثقافية وتربوية.

وليس ذلك في حقل الفيزياء والمعرفة والتكنولوجيا الراهنة فحسب، بل أوجدت التغيرات مستويات فائقة من التبادل جعلت العملية الإنتاجية عابرة للمحيطات، تبحث عن نظام جديد، وقيم حديثة، وإنسان جديد قادر على إخضاع القوى المادية الرهيبة لسلطان العقل، وكما يقول المفكر أينشتاين: «إن التطور إلى الأفضل يكون دائماً بمثابة صراع مأساوي أليم»، وهذا من دون شك، يرجع لأن الحضارة العلمية، التي تغمر العالم بظلالها اليوم، إنما تنبت من الثورة العلمية المادية، والتي خلقت صراعاً بين القوى الرئيسية المهيمنة: أمريكا من جهة، والصين من جهة أخرى، بسبب الرسالة السياسية التي تقود وتتحكم في كل الرسائل الأخرى التي تتعلق بحياة الناس في المجتمع المدني، ليس في الدولتين المتصارعتين فقط، وإنما في ما يتعلق بحياة البشرية التي تمثل أرضاً خصبة لذلك الصراع بين القوتين.

لا أحد ينكر، وتاريخ العلم شاهد على ذلك، أن الولايات المتحدة هي التي أبدعت هذه التكنولوجيا المتقدمة بدءاً من الكمبيوتر، وبرنامج النوافذ، وغوغل، واندرويد، وصولاً إلى تطبيقات الهاتف المحمول المختلفة. لكن العلم لا يمكن أن يكون احتكاراً خاصاً لأحد، سواء أكان فرداً أم دولة، بل هو ملك الإنسانية جمعاء، فمن حق الجميع أن يتعلموا كما جاء في شرعة حقوق الإنسان الدولية. غير أن الدول الكبرى لا تحترم تلك الشرعة، وتسعى إلى احتكار مخرجات التقنية الحديثة لتحقيق المكاسب السياسية والاقتصادية والعملية.

وكانت الولايات المتحدة انفردت خلال العقد الأخير في نشر تطبيقات التواصل الاجتماعي مثل «يوتيوب، وفيسبوك، وتويتر» وغيرها، وقد حققت تلك التطبيقات انتشاراً هائلاً، حيث تخطى مستخدموها حاجز خمسة مليارات مستخدم في العالم. وقد توجهت الصين للدخول في هذا المجال فأطلقت شركة «بايت دانس» تطبيق «دوين»، وهو تطبيق مشابه لتطبيق يوتيوب الأمريكي، ومن ثم أطلقت الشركة نفسها تطبيق «تيك توك» وهو نسخة طبق الأصل عن «دوين» لكنها موجهة للاستخدام العالمي.. ومن ثم اشترت شركة «بايت دانس» المالكة لتيك توك، شركة «ميوزكلي»، وهذه الشركة مقرها في شنغهاي، ولها مكتب خارجي في سانتا مونيكا، في كاليفورنيا بالولايات المتحدة، وهي عبارة عن منصة وسائط مقاطع مرئية اجتماعية تسمح للمستخدمين بإنشاء مقاطع مرئية قصيرة كوميدية.

وقد سمح شراء تلك الشركة لتيك توك في الدخول إلى السوق الأمريكية، وسرعان ما حقق انتشاراً بسبب الميزات الموجودة فيه، حتى لقد قام مئات الملايين من الأمريكيين بتنزيله على هواتفهم النقالة، ومنهم نخبة من رجال الفكر والفن، كما تجاوز مستخدمو «تيك توك» أكثر من ملياري مستخدم في العالم. وقد تنبهت السلطات الأمريكية إلى ما ترى أنه خطر في التطبيق، وهو أن تستخدمه السلطات الصينية للتجسس على المواطنين الأمريكيين، وكان الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، أصدر أمراً تنفيذياً يمنح شركة بايت دانس مهلة 90 يوماً لبيع، أو تفكيك أعمال تيك توك الأمريكية، بحجة أن الشركة «قد تتخذ إجراء يهدد الإضرار بالأمن القومي للولايات المتحدة». لكن الشركة رفعت دعوى قضائية ضد الأمر التنفيذي، أمام محكمة أمريكية، ونجحت في الحصول على قرار يوقف مؤقتاً، هذا الأمر الرئاسي.

وفي الشهر الماضي، أصدرت الإدارة الأمريكية أوامر للموظفين الفيدراليين بإزالة التطبيق من الهواتف والأجهزة التابعة للحكومة. بعد خطوات مماثلة من كندا والاتحاد الأوروبي. واتهمت الخارجية الصينية الولايات المتحدة «بإساءة استخدام سلطة الدولة لقمع الشركات الأجنبية، وأنها لم تقدم دليلاً على أن تطبيق «تيك توك» يشكل تهديداً للأمن القومي الأمريكي». ويوم الثلاثاء الماضي، صوتت لجنة الطاقة بمجلس النواب الأمريكي على مشروع قانون يمنح شركة ByteDance الصينية ستة أشهر للانسحاب من تطبيق تيك توك، لدواعٍ تخص الأمن القومي الأمريكي.

ومن دون شك فإن شركة «تيك توك» لا يمكنها أن تعمل بمفردها من دون مساعدة من الدولة الصينية، لأنها بحاجة إلى خادم عملاق لا يمكن الحصول عليه إلا بإشراف السلطات الصينية، وهذا سبب القلق الأمريكي من «تيك توك»، لكن بالمقابل تنتشر التطبيقات الأمريكية الأخرى في مختلف دول العالم من دون أن تثير حفيظة تلك الدول، وهذا يشكل ازدواجية المعايير الأمريكية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/33erv32c

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"