عصر خفة الفلسفة

00:14 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

تنتشر الآن كتب عديدة في تبسيط الفلسفة، وتحمل العديد من العناوين الدالة، مثل «10 دقائق مع الفلسفة» و«كل ما تريد معرفته عن الفلسفة»، فضلاً عن إصدارات أخرى تتحدث عن قوة التفكير... إلخ، وهي أعمال تتسق مع روح قارئ العصر الذي يتفاعل لحظياً مع مواقع التواصل الاجتماعي، تلك التي تمتلئ بمقولات لهذا الفيلسوف أو ذاك. مقولات أقرب إلى الحكمة السريعة التي تحاول أن تجيب عن سؤال تطرحه مشكلة تعترض طريق الإنسان، مقولات منزوعة من سياقها تمنح قارئها راحة ما، وتعبّر عن جانب معين من ثقافة تلك المواقع التي تفتقد إلى العمق والتحليل.

يتميز التعامل مع الفلسفة في الوقت الراهن بالخفة، وهي تختلف تماماً عن البساطة أو التبسيط، ففي تاريخ النهضة العربية الحديثة، وعلى مدار أكثر من قرن ونصف، كانت هناك العديد من المحاولات لتبسيط الفلسفة وتقديمها إلى القارئ الذي يبحث عن إجابة للعديد من الأسئلة التي تلح عليه، ومحاولات أخرى لربط الفلسفة بواقع الحياة، واجتهادات ثالثة لإدماج الفلسفة في الآداب والفنون والنقد الأدبي والمسرح، أو دراسة الأبعاد الاجتماعية للأفكار الفلسفية المختلفة، إضافة إلى أسماء وازنة كانت تكتب عن الفلسفة بفضاءاتها المختلفة في الكثير من الصحف اليومية. كل هذا مع وجود قويّ وملحوظ لمفكرين كانوا يعملون على الفلسفة كعلم خاص بالنخبة في الأكاديميات والجامعات والمراكز البحثية، حتى طمح بعضهم إلى التفكير في المطالبة بفلسفة عربية خاصة بنا.

لقد أفرز كل هذا الزخم ظواهر ميّزت تلك الحقبة، وبإمكاننا أن نتحدث عن مجلة فلسفية كانت ذات يوم توزع مع الصحف اليومية، ونشأت الجمعيات الفلسفية في أكثر من قطر عربي، ونُظمت المؤتمرات الدولية لمناقشة مختلف القضايا، وطمح أحد المفكرين إلى إقامة ندوة فلسفية يدعو إليها الباعة الجائلين في الشارع، ليتعرف إلى طموحاتهم وأحلامهم، وكيف يمكن للفلسفة أن تتعامل مع أزماتهم، وعلى الهامش معارك فكرية ومشروعات بحثية قضى فيها بعضهم عمره بأكمله.

لقد كنا نتعامل مع الفلسفة حتى عقود قليلة مضت بجدية كبيرة، جدية تناسب هذا العلم وأدواته ومخاطبته للعقل، والأهم أن الفلسفة كانت تتسرب، ولو على استحياء، إلى مختلف مفاصل المنتج الثقافي، وصولاً إلى الفنون المرئية، فكانت تؤثر ولو بطرائق خفية أو بطيئة المفعول في العقول وفي المنظومة الاجتماعية، أي أنها، كانت تقود قاطرة الثقافة بصفة عامة، حتى لو اشتكى بعضهم آنذاك من عزلة الفلسفة، فإن مراجعة شاملة لروح ثقافتنا منذ عقود تؤكد أن الكثير من الأعمال الأدبية والفنية كانت تستند إلى قيمة ونموذج، وتتماس بدرجة ما مع فكرة فلسفية كبرى.

الآن تبدو حاجة الإنسان العربي إلى الفلسفة ماسة وعلى أكثر من صعيد، فالفلسفة في الأصل سؤال يحرك آلة الفكر، ويرفض الإجابات الجاهزة والمعلبة التي يفرضها الفكر المتطرف، وهي منتجة للقيم الكبرى التي تحمي الإنسان في واقع تسوده السطحية والانغماس في كل ما هو هامشي.

الفلسفة حارسة العقل ولا يمكن التعامل معها بخفة أو باجتزاء من هنا أو هناك.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/55kwp22n

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"