عادي

إيّاك والتكلّف

00:14 صباحا
قراءة 3 دقائق
1
سالم بن ارحمه الشويهي

د. سالم بن ارحمه

التوسُّط في كل شيء منهجٌ ربَّاني. قال تعالى: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً»، فالله تعالى أكرمنا بأنْ جعلنا وسطاً في كلِّ شيء، في أمورِ الدين والأخلاق والسلوك.. وخلاف ذلك التكلف المذموم الذي نهى الله تعالى عنه، فقال الله، تعالى، موجهاً نبيه، صلى الله عليه وسلم، أن يقول: «وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ». وعن عمر، رضي الله عنه، قال: «نُهينا عن التّكلف»، فكنْ كما أنت بلا تكلف ولا تصنّع، واجعل نفسك على سجيتها.. تكن أجمل؛ فالحياة معقدة بما فيه الكفاية، فلا تزدْها تعقيداً بالتكلف.

وَإذا مَسّكَ الزمانُ بضرٍّ

لا تكنْ أنتَ والزمانُ عليها

والمتكلف سرعان ما ينكشف؛ فالطبع يغلب التطبع.

كلُّ امْرِئ راجعٌ يوماً لِشيمَتِهِ

وإِنْ تَخَلَّقَ أَخْلاقاً إِلى حِينِ

فلا تكن من المتكلفين في أسلوب حياتك ولا تكلف نفسك ما لا تطيق ولا تتحمل، فبعض الناس يعيشون في همّ متواصل في حياتهم؛ لأنهم إذا أولموا تكلفوا، وإذا دُعوا تكلفوا، وإذا لبسوا تكلفوا، وإذا أهدوا تكلفوا، وإذا فرحوا تكلفوا، وإذا حزنوا تكلفوا، حتى إذا تكلموا تكلفوا، فهم في صراع نفسي؛ لأنهم من الداخل يصارعون حقيقتهم التي يظهرون للناس خلافها.

التكلف قناع يبعدك عن الناس، فكن على طبيعتك، فستدخل القلوب على قدر قربك من حقيقتك. ومما يسبب التكلف سيطرة بعض العادات الدخيلة وانتشارها في المجتمع.

ومن صور التكلف ما يحدث في حفلات الزواج من إسراف، فكم من يقوم بسداد دينه لسنوات من أجل ليلة أغلب طعامها ومخلفاتها في مكب النفايات.

المرءُ لا تشقيهِ إلا نفسُهُ

حاشا الحياة بأنَّها تُشقيهِ

ويظنّ أنَّ عدوَّه في غيرِهِ

وعدوُّهُ يمسِي ويضحِي فيهِ

ومن ذلك التكلف في المناسبات والمفاخرة بتقديم الضيافة والتي أفسدت فرحة اللقاء، وأصبح التزاور هماً بعد أن كان سروراً. لذلك، قلّ طرق الأبواب، وتزاور الأصحاب، وكثر التلاوم والعتاب، فالتكلف منغِّص لطِيب اللقاء.

قال علي رضي الله عنه: «شر الأصدقاء من تكلّف لك، ومن أحوجك إلى مداراة».

وما دخل التكلف باب بيت، إلا وخرجت الطمأنينة من النافذة، فالناس لم يتزاوروا ليأكلوا لمجاعة حلت بهم وإنما للأنس، ولكن بعضهم حوّل هذا الأنس إلى تعب وهمّ وشقاء.

وأصبح التكلف من حبائل الشيطان لقطع الأرحام، فكم من الأحبة منع من تزوارهم ما يحصل من الكلفة. قال الفضيل، رحمه الله: «إنما تقاطع الناسُ بالتكلف، يزور أحدُهم أخاه فيتكلف له، فيقطعه ذلك عنه».

وليس هناك ضيفٌ أعظم وأجلّ من رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك لم يكن الصحابةُ الكرام، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، مع حُبِّهم وتعظيمِهم له يتكلفون إذا حلّ ضيفاً عليهم.

عن أنس رضي الله عنه قال: «دخل النبي، صلى الله عليه وسلم، على أم سليم، فأتته بتمر وسمن». وكان الإمام جعفر الصادق يقول: «أثقل إخواني عليّ من يتكلف لي، وأتحفظ منه، وأخفهم عليّ من أكون معه كما أكون وحدي». وقد قيل: «من سقطت كلفته دامت ألفته، ومن خفت مؤنته دامت مودته».

إذا لمْ يكنْ صفوُ الودادِ طبيعةً

فلا خيرَ في ودٍّ يجيءُ تكلّفَا

والأدهى من هذا انتقال المظاهر والتكلف من صالات الأفراح إلى مجالس العزاء.

يذكر لي أحدهم أنه ذهب لمجلس العزاء وإذا به يدخل لخيمة شاسعة الأرجاء واسعة الجوانب. ثريات من الكريستال معلقة، والكراسي مذهبه والعود والبخور يمر به على الحضور. ولما حان العشاء دعوا إلى خيمة أخرى مثلها في الفخامة والبهاء.. فيها ما لذ وطاب من الطعام والشراب، فلما انتهوا من طعامهم، أتاهم صاحب العزاء عند سفرتهم، وقال باللهجة المحلية: «يا جماعة إن شاء الله ما شي قصور»؟ فأجابه أحدهم من فوره قائلاً: «بيض الله ويهك ما شي قصور إن شاء الله كل سنه وكل حول»، فلكثرة مظاهر التكلف نسي صاحبنا أنه في مجلس عزاء.

ومن التكلّف صحبة المترفين فتجد الشخص يستدين، ويضطر أن يحاكيهم فيكلف على نفسه، وقد قال النبي، صلى الله عليه وسلم: «المُتَشَبِّعُ بما لَمْ يُعْطَ كَلابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ».

هذا الحديث العظيم أرشدنا إلى داء خطِر يصيب بعض الناس، ألا وهو داء التعاظم والادّعاء بما ليس فيه، وبما لا يملكه، فالراحة النفسية في عيش الإنسان على طبيعته، وفي تعامله مع الحياة والناس بتلقائية، ‏فلا أجمل من أن تكون على سجيتك، فالتكلف يتعب نفسك وينفر الناس منك.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mswtjhyp

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"