حسام ميرو
في سبعينات القرن الماضي بدت الحركة الكولونيالية في العالم كأنها أصبحت إلى حد كبير ذكرى من الماضي، بعد حركة الاستقلالات الواسعة التي عرفتها الدول الآسيوية والإفريقية، التي خضعت لفترات متفاوتة من الاستعمار، من قبل إمبراطوريات ودول أوروبية، امتدت بعض تلك الفترات لقرون، كما في الاستعمار البريطاني للهند.
وبدأت العلاقات بين الدول المستقلة ومستعمرها القديم تدخل في طور جديد، وعلاقات فيها مستوى ما من الندية، كانت في بعض الحالات ندية شكلية، وفي حالات أخرى تستند إلى تطور اقتصادي وتنموي وسياسي للبلد المستقل.
وقد لعب النظام الدولي، ثنائي القطبية، الولايات المتحدة والغرب من جهة، والاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية من جهة أخرى في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ونشوء ما عرف ب «الحرب الباردة»، دوراً في ترسيخ الاستقلال، خصوصاً الدول التي ساندها الاتحاد السوفييتي، لتأكيد استقلاليتها عن المحور الغربي، الذي دفع باتجاه سحب الدول من المعسكر الاشتراكي إلى حظيرته.
الحركة الكولونيالية التي بدأت فعلياً في القرن الخامس عشر، نشأت بوصفها إحدى الديناميات العسكرية والاقتصادية للتطوّر الصناعي، للحصول على المواد الخام، وإنشاء أسواق واسعة، وبحلول بدايات القرن الماضي كانت القوى الاستعمارية الأوروبية قد سيطرت بشكل مباشر على أكثر من 80% من العالم، واضعة بلداناً وشعوباً بأكملها تحت سيطرة ونهب واستغلال عدد من البلدان الأوروبية، التي كانت تقود حركة التطور الرأسمالي العالمي، وتأكيد سيطرة التفوق الأوروبي على مجمل بقاع الأرض، وذلك من خلال منظومة اقتصادية عسكرية وسياسية صارمة، محورها ومركزها الغرب الأوروبي، فيما تشكّل الدول الواقعة تحت الاستعمار الأطراف والهوامش، أي أنها مجرد موضوع للذات الأوروبية.
الكولونيالية الأوروبية، التي تطورت في داخلها منظومات فكرية عدة، أو ما عرف ب «سياق التنوير»، الذي جاء ليقلّص من نفوذ السلطات السياسية والمؤسساتية القديمة، المرتبطة بمرحلة الإقطاع الأوروبي، لمصلحة الطبقة الرأسمالية الصاعدة، أنتجت في الوقت نفسه رؤية معاكسة لهذا السياق التنويري بما يخص الدول التي استعمرتها الدول الكولونيالية، فقد نُظر إليها بوصفها جماعات أهلية في معظم الأحيان، ذات ثقافات متخلفة، وتحتاج إلى من يديرها من خارجها، ويشرف على شؤونها الداخلية.
هذا الأمر أنتج عملياً نظام المستعمرات الإداري، الهدف منه، ليس فقط تسيير شؤون تلك «الجماعات»، وإنما منع قيام أي تطور سياسي مضاد للحركة الكولونيالية، وإيجاد قوى محلية، ترتبط مصالحها المباشرة ووجودها من خلال القوى الاستعمارية.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ونشوء نظام ثنائي القطب في العلاقات الدولية، وتأسيس الأمم المتحدة في عام 1945، انطلاقاً من مبدأ «سيادة الدول على أراضيها»، أو ما يعرف بمبدأ «ويستفاليا»، تسارعت حركة الاستقلالات في عدد من قارات العالم، خاصة آسيا وإفريقيا.
وخلال عقدين من الزمن، كانت معظم الدول الخاضعة للاستعمار قد نالت استقلالها، ومضت في مشروع بناء الدولة الوطنية، وبناء مقومات الاستقلال الذاتي، السياسية والاقتصادية والثقافية، والتوازن في بيئتها الإقليمية، مع نشوء صراعات هيمنة من طبيعة مختلفة، ضمن المنظومات الإقليمية نفسها، بعد تراجع هيمنة الدول الأوروبية.
لكن مرحلة الهدوء والاستقرار النسبية التي عرفتها الدول الوطنية بعد الاستقلال، راحت تهتز على وقع انفراط عقد النظام الدولي ثنائي القطبية، وصعود موجة العولمة في مطلع التسعينات من القرن الماضي، ونشوء الشركات العابرة للقارات والجنسيات، وتنامي حركة الرأسمال المالي، ممثلة بالمصارف والبورصات العالمية، وكذلك صعود الرأسمالية الرقمية، التي أصبحت إحدى أهم أدوات الحركة الكولونيالية الجديدة، إذ تهيمن الولايات المتحدة، بشكل أساسي، على منظومات دولية كبرى، من خلال الشركات الرقمية في الولايات المتحدة الأمريكية، التي تدير من خلالها شبكة مصالحها عبر العالم، بالإضافة إلى تنامي القوة العسكرية الأمريكية بشكل غير مسبوق في تاريخ البشرية، ما يتيح لها مجالات هيمنة جوية وبحرية وبرية في جميع القارات.
هذه القوة التفجيرية الهائلة للنظام العولمي الجديد، أوجدت تحديات من نوع جديد أمام الدولة الوطنية، وأوجدت في الوقت نفسه فلسفة سياسية جديدة للقوى الرأسمالية، تقوم على تراجع مكانة الاستقرار، لمصلحة مفهوم إدارة الفوضى، وبالتالي، بات بالإمكان تجاهل عمليات تفتيت الدولة الوطنية، طالما كان بالإمكان إدارة ما ينتج عن عملية التفكيك من فوضى، وتحقيق فوائد أكبر، لمصلحة النظام الرأسمالي الجديد.
الأمر ليس بحاجة إلى كثير من التحليل لفهم تجاهل الولايات المتحدة والغرب الأوروبي لعملية تفكك عدد من الدول في الشرق الأوسط وغيرها، والانتقال من مرحلة التعامل مع دول وأنظمة سياسية، إلى إدارة ما نجم من فوضى، وضبط حركة وصراعات القوى المحلية، والاستفادة من مجمل التناقضات القائمة، لإيجاد نوع جديد من الكولونيالية، التي تدمج بين أساليب الكولونيالية القديمة، وأساليب الموجة العولمية.
هذا النمط الكولونيالي الجديد، فتح شهية عدد من الدول التي تمتلك مقومات وأدوات كولونيالية، وترى أنها قادرة على الاستفادة من تفكك بعض الدول الوطنية، للانخراط في العملية الكولونيالية، على الرغم من افتقادها إلى الكثير من عناصر الريادة الرأسمالية.
وخلال السنوات القليلة الماضية، نمت حركات استعمارية جديدة في الشرق الأوسط، على إيقاع تراجع مبدأ سيادة الدول على أراضيها، وتحول الصراعات الداخلية إلى صراعات إقليمية، في الوقت ذاته، شهدت بعض الدول الإفريقية انقلابات عسكرية، عكست صراعات العلاقات الدولية، إذ يجري استبدال علاقات الهيمنة مع الغرب لمصلحة علاقات هيمنة جديدة، مع كل من روسيا والصين اللتين يبدو أنهما وجدتا مكاناً جيداً لخوض صراع سياسي واقتصادي طويل مع الغرب.