حسام ميرو
التصعيد في المنظومة الدولية عموماً، والشرق أوسطية خصوصاً، السائد منذ سنوات، يشير بشكل واضح إلى تراجع مكانة التفاوض في العلاقات الدولية، وانخفاض مكانة العمل الدبلوماسي لمصلحة الأعمال الحربية الصريحة وغير الصريحة، الأمر الذي يتمظهر في حالة عدم يقين على مستوى العالم ككل، وعلى مستوى المنظومات الإقليمية، ومنها منظومة الشرق الأوسط، التي أصبحت بؤرة ملتهبة، يشتعل فيها عدد من الحروب الداخلية/ الأهلية، أو الحروب بين الدول، أو حروب تشنّها مجموعات عسكرية غير حكومية، والتي تعرف ب «الميليشيات»، أو الفصائل المسلحة.
كما ارتفعت في هذا السياق وتيرة الاعتماد على المرتزقة في غير مكان من العالم، لسد النقص في العديد العسكري، أو أحياناً للتنصل من المسؤولية المباشرة عن ارتكاب جرائم حرب، وجعل الفاعل مجهولاً، أو يصعب الوصول إليه ومساءلته.
سبقت الحرب الروسية الأوكرانية، أجواء تفصح عن إمكانية تحول الخلاف الروسي مع حلف شمال الأطلسي «الناتو» إلى حرب، عبر البوابة الأوكرانية، بسبب محاولة كييف الانضمام إلى الحلف، الأمر الذي يستهدف الأمن القومي الروسي.
وفي تلك الأثناء، في مناخات ما قبل الحرب، طالبت أصوات عديدة باللجوء إلى اللغة الدبلوماسية، والجلوس إلى طاولة التفاوض، لكن هذا المسعى السلمي، لم تكن له أي حظوظ للنجاح، ما جعل الحرب أمراً واقعاً، وقد استنزفت خلال العامين ونصف العام الكثير من الموارد القومية للبلدين المتحاربين، إضافة إلى الأرقام الكارثية لعدد الضحايا من الجيشين، والتي بلغت أكثر من 200 ألف قتيل، ما عدا الجرحى، وبينهم عشرات الآلاف الذين أصيبوا بإعاقات دائمة، وملايين النازحين، خصوصاً من شرق أوكرانيا، والهاربين من الخدمة الإلزامية أو الاحتياطية.
المفارقة في الحرب الروسية الأوكرانية، أنها حرب تدور في الطرف الأكثر خبرة وتجربة مباشرة مع الحروب الطاحنة، فقد خاضت معظم الدول الأوروبية الحربين العالميتين في القرن العشرين، وعرفت كل المعاني المؤلمة للحرب، من دمار المدن والبنى التحتية وموت عشرات الملايين من البشر، وهدر الموارد المالية.
الأهم من ذلك، أن الأوروبيين ما زالوا يدفعون ثمن وقوف الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب الدول المنتصرة خلال الحرب، أو إلى جانب الدول المهزومة بعد الحرب، خصوصاً ألمانيا، وذلك من خلال منح واشنطن وصاية كبيرة على الأمن القومي، والجانب الثاني للمفارقة، أن هذه الحرب تدور في الطرف الأكثر عقلانية في العالم، قياساً إلى تاريخ العقلانية الحديث، حيث تعدّ أوروبا نفسها مركزاً للعقلانية، والتي تعني في أحد معانيها العميقة، القدرة على اتخاذ خيارات أقل كلفة في حل المشكلات والنزاعات، والاحتكام إلى منطق التفاوض عوضاً عن منطق الحرب.
التعامل بحسّ خالٍ من المسؤولية تجاه ضرورة التفاوض، والاحتكام للحرب، يحمل في طياته، إضافة إلى الحسابات السياسية، شكلاً من أشكال الاستعلاء الضمني على الآخر، أو ما يمكن تسميته ب «الفاشية المضمرة»، وعدم الاكتراث بمصائر البشر العاديين، واعتبارهم مجرد وقود لمصالح وأفكار نخب سياسية واقتصادية ومالية، يمكن المقامرة بأرواحهم، من دون أدنى اعتبار لفكرة التطوّر القيمي الإنساني، الذي يفترض أنه يجعل من حق الحياة محور أي تفكير أو خيار سياسي.
هذا الاستعلاء الضمني، يعود مرة أخرى في تاريخ البشرية، ليصبح ظاهرة متكررة مع تكرار ظروف بعينها، فقد شهدنا منذ عام 2011، حالات من الصراع الأهلي في عدد من الدول العربية، انتهت بتقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ، تزعم كل سلطة فيها أنها السلطة الشرعية، في الوقت الذي تخوض فيه جولات تفاوضية مع الأطراف المعارضة أو المنافسة لها، من دون الوصول إلى أي نتائج جدية، في الوقت الذي تصبح فيه كلمة الوطنية بلا أي قيمة فعلية، ومجرّد شعار أيديولوجي للاستهلاك الإعلامي.
لكن من الناحية العملية، فإن معظم أطراف النزاع لا تريد لأي تفاوض أن يقلّص من مساحة نفوذها، ولا تريد تقديم أي تنازلات جوهرية للطرف الذي تفاوضه، بل إنها تتحيّن حدوث تحولات تسمح لها بالانقضاض التام على الخصم وسحقه بشكل نهائي، في الوقت الذي تهدر فيه الثروات الوطنية، أو ما تبقى من تلك الثروات، بعد سنوات من الاقتتال الأهلي، كما يزعم كل طرف بأنه حقّق أهدافه من الحرب، وأنه الطرف المنتصر، في الوقت الذي منيت فيه كل البلاد التي تسودها اليوم حروب أهلية بهزيمة كلية، مع خسارة سيادتها، وتحولها إلى ساحة صراع بالوكالة.
في هذا السياق من تراجع مكانة التفاوض كأداة سياسية وعقلانية، نشهد منذ أكثر من ستة أشهر، كيف تتهرّب إسرائيل من أي تفاوض جدي، يسمح بوقف الحرب على الفلسطينيين في قطاع غزة، التي تدخل شهرها الثاني عشر، وكيف تسهم واشنطن، التي يفترض أنها وسيط، في دعم إسرائيل وتكرار لازمة الدفاع عنها بشكل يومي، من دون ممارسة ضغوط جدية، ما يسمح عملياً لإسرائيل باستكمال أهدافها العسكرية والاستراتيجية، لكن هذه الممارسة التي تتنكّر للتفاوض كأداة سياسية، مدعومة من القوّة الأكبر في العالم، والمتمثلة بالولايات المتحدة الأمريكية، ترسّخ فعلياً حالة النكوص الدولي عن منطق السياسة، لمصلحة منطق الحرب، وتراجع المسؤولية الدولية عن حلّ النزاعات عبر التفاوض، وهو ما سيسمح فعلياً بديمومة الحروب القائمة، وربما بتمددها.