حسام ميرو
مقارنة بالمشاريع السياسية العربية الكبرى، التي انطلقت بعد مرحلة الاستقلالات عن الأجنبي، منذ أربعينيات القرن الماضي، فإن الواقع المعيش للعرب اليوم، مع استثناءات قليلة، يبدو بمثابة انتكاسة عن الأهداف التي وضعتها تلك المشاريع، وجعلت منها أيديولوجيا استهلكت أجيالاً، مثلما استهلكت إمكانات، وأهدرت فرصاً، ودفعت نحو اليأس ملايين البشر، وأوصلت الحال إلى ما هو عليه، من شرذمة وفوضى، والأنكى، غياب الأفق بنهوض سريع، في ضوء مخاطر واقعية بازدياد الأوضاع العامة سوءاً.
من النادر أن نجد اهتماماً عربياً جدّياً بعلم الإحصاء الاجتماعي، الذي يعطي الأهمية الأساسية للبيالنات والأرقام، والتي تسمح للباحث والمفكر والسياسي إجراء مقارنات بين الفترات الزمنية، أو وضع تصوّر عن الواقع الراهن، من دون مزاودات بلاغية، إذ يكفي أن نقارن بين متوسط دخل الفرد في بلد ما، في حقبة ماضية، وبين هذا المتوسط في الوقت الحالي، لنعرف ما إذا كان هذا البلد في حالة تراجع، أو نمو، والأمر ذاته ينطبق على كل الإحصاءات الممكنة، التي تطال مختلف شؤون الدولة، والمؤسسات، والأفراد، فالبيانات والأرقام لا تجامل أحداً، على عكس الخطابات الأيديولوجية، الموجهة لفئات محدّدة من الناس، تحاول إٌقناعهم بصحتها، والسير في ركاب أحزابها، ورموزها.
في اللحظة التي خرج منها العرب من زمن الانتدابات والاحتلالات، سادت بسرعة أيديولوجيتان، قومية وإسلامية، قد تكون الفروقات الظاهرية بينهما عدّة، لكن من حيث الجوهر، كانت نقطة الاستناد الأساسية واحدة فيهما، وهي الماضي، فقد سعت كلّ منها إلى تمجيد الماضي، واعتبار أن العمل المطلوب هو استعادة تلك الأمجاد، وقد أريق الكثير من الحبر، ونشبت الكثير من المعارك الكلامية، وغير الكلامية، حاول فيها أصحاب كل أيديولوجيا، التدليل على صحة خطابهم، وأهدافهم، بينما كان المستقبل في خطاب ووعي الطرفين مفهوماً ضبابياً، يفتقر إلى التحديد العياني، والواقعي، أي أنه يفتقد إلى البرامج الممكنة، القابلة للتطبيق، ويمكن قياس نتائجها سلباً، أم إيجاباً.
وإذا عدنا إلى أرشيف خطابات النخب السياسية الحاكمة في العالم العربي، سنجد أن معظم تلك الخطابات، على الرغم من اختلاف الحقب الزمنية، تنتمي إلى قاموس واحد، يضع السلطة في موضع متعالٍ عن الواقع، يجعل منها نخبة مختارة، عالمة، وعارفة، لكنها تواجه مؤامرات، من الداخل والخارج، وهي تنوب عن باقي الشعب، في مواجهة تلك المؤامرات، في الوقت الذي لا نجد فيه حديثاً جدياً عن الاقتصاد، والواقع المعيشي، وطرق تحسينه، وزيادة الدخل، ورفع كفاءة القضاء، والمحاسبة، وترشيد الموارد، ومحاربة الهدر الحكومي، وزيادة الإنفاق على البحث العلمي، وتطوير التكنولوجيا، والانخراط في شراكات، إقليمية ودولية، لتطوير قطاعات مستقبلية، كما لا نجد أية إشارة من النخب الحاكمة حول استعدادها للمساءلة، في حال فشلها في تحقيق البرامج الاقتصادية والاجتماعية.
وإذا وقفنا عند تجربة الدول العربية التي شهدت اضطرابات وحروباً، في السنوات الأخيرة، سنجد أن معظم النخب الحاكمة، قضت وقتاً طويلاً في الحكم، وحكمت بلداناً في معظمها تحوز ثروات نفطية، أو بيئية، أو بشرية، ومع ذلك، لم تتمكن من تحويل تلك الثروات إلى واقع مزدهر لشعوبها، ولم تستثمر في البنى الوطنية والعلمية، ولم تفكّر في إنشاء صناديق ادخار سيادية للأجيال المقبلة، بل على العكس من ذلك، فقد أهدرت كل فرص تطوير الواقع، وأدخلت شعوبها في حالة من الإفقار، هي على نقيض مع ما تتمتع به من إمكانات ووفرة، كما في حالة السودان اليوم، الذي لا يكاد يخرج من حرب أهلية حتى يدخل في حرب أخرى، تزيد من حالة الانقسام الاجتماعي والكياني بين أبنائه، وهو المعروف تاريخياً بأنه قادر وحده، على إطعام مئات الملايين من البشر، لكن مواطنيه يعانون اليوم، العوز، والفاقة، والتشرّد. إن تغيير الواقع إلى الأفضل، أي التقدّم، لا يمكن أن يحدث من دون وعي مطابق للواقع، وسياسات مطابقة لحاجات البشر، وهذا الوعي، شرطه النسبية، لا الإطلاق والتعميم، ووضع برامج واقعية، تستند إلى الإمكانات، وتهدف إلى توسيع رقعتها، والمراكمة الكمية والنوعية، ووضع أهداف قابلة للقياس، يمكن بناء عليها معرفة مسار التجربة، ومن الضرورات العملية لتحقّق هذا الوعي، وتحقيقه نتائج ملموسة، الاعتراف بضرورة التشاركية في الفضاء العام، التي تسمح فعلياً، بجعل النخب جزءاً من الواقع، وليس في موضع التعالي، أي أنها قابلة لأن تنجح، أو تخفق، وأيضاً قابلة للمساءلة عن برامجها، وأدائها.
بوابة هذا الوعي المطابق للواقع في الفكر والسياسة، إعادة تعريف السلطة، وإخراجها من حيّز المطلق، وإدخالها حيّز النسبي، وهذا هو واقع حال الدولة الحديثة، حيث أصبحت السلطة في خدمة المصلحة العامة، وليست امتيازاً لفئة، أو فرد، وإنما تتويج لرؤى وبرامج، خاضعة باستمرار لعملية تقييم من قبل الإعلام والمؤسسات المختصّة والنقابات، والفئات الاجتماعية، كما تخضع السلطة نفسها للمساءلة والمحاسبة، وتراجع شعبية الأحزاب الحاكمة، كنوع من العقاب على فشلها، إذ لا مجال للمزاودات، في ضوء حضور الأرقام والبيانات، التي توضح بشكل شبه قاطع مدى نجاح أو إخفاق السلطة.
[email protected]
https://tinyurl.com/57drryh9