حسام ميرو
في الوقت الذي تعمّ فيه الفوضى أجزاءً أساسية في العالم العربي، ويظهر التفكّك أمراً واقعاً في عدد من مجتمعاته ودوله، وفي ضوء غياب أي ملامح جدية لبناء الاستقرار من جديد، فإن وعي هذه الظاهرة التاريخية المتمثّلة بشكل كبير في تداعي الدول الوطنية التي كانت قائمة، انطلاقاً من ضرورات عملية، يستدعي في الفكر السياسي إعادة النظر إلى ما يجري من خلال الأنساق، وليس فقط من خلال البنى الاجتماعية التاريخية.
ومن جملة ما يحتاج المراجعة والتفكّر والنقد المفاهيمُ، ليس بوصفها مجرّدات، بل بوصفها جزءاً من نسق، أو أنساق، أي من خلال العلاقات التي تحكم العناصر الموجودة في النسق، فعلى سبيل المثال، إن أي نقد يوجّه اليوم لتداعي مفهوم الوطنية في الدول العربية التي طالتها الحروب والفوضى والانقسام غير ممكن عملياً من دون وعي حالة انهيار أنساق قديمة، فقدت إمكانيات تماسكها.
في نقد عملية تداعي الأنساق، قد لا يكون مرغوباً، إلا بشكل حذر ونسبي، إعطاء معنى كبير للقيم المجرّدة، إذ إنه من الخطورة بمكان اعتبار أن القيم المجرّدة موجودة بشكل مستقل عن النسق الذي تتشكّل فيه، وتأخذ مضمونها وملامحها من العمليات التي تحكمه، أي من خلال تفاعل وجدل الثابت والمتغيّر داخل النسق نفسه.
في هذا السياق، أيضاً، هناك خطر موجود ومستمر في فهم ظاهرة الدول الوطنية في العالم العربي يتمثّل في منح بعض العناصر المركزية قيمة أكبر من القيم التي تعدّ هامشية أو طرفية، وهذا الخطر لا ينفي، ولا ينبغي أن ينفي، أهمية العناصر المركزية، مثل عنصر السلطة، الذي يعدّ مركزياً في مجمل التحليل السياسي، لكن من الضرورة بمكان إعطاء العلاقات التي تحكم العناصر الأولوية في فهم تشكل النسق أو الأنساق الاجتماعية، بما فيها عنصر السلطة، وعدم اختزال هذا العنصر/ السلطة فقط في السلطة السياسية، وهي الجزء الأكثر بروزاً من هذا العنصر، لكنها ليست كل العنصر، أو بالأحرى، إن السلطة موجودة في كامل النسق، وفي مجمل عملياته.
قوة النسق وبقاؤه وتطوّره أو حتى اضمحلاله وفناؤه، مسائل مرهونة بثلاثة شروط علائقية أساسية، هي حدوث تعديلات ما في مكوّنات النسق، وتحولات تطول العلاقات بين مكونات النسق، أو علاقات النسق بمحيطه، وهذه الشروط هي التي تحدّد مسار النسق، ويلعب فيها عامل التغيّر دوراً كبيراً، على حساب عوامل الثبات، وبالتالي إن حياة النسق، أي تواصل قدرته على الفعل مرهونة بإدارة العلاقة بين عوامل التغيّر وعوامل الثبات، وهي في نهاية المطاف، أي عوامل التغيّر وعوامل الثبات تتفاعل هي الأخرى مع بعضها، إذ لا يمكن افتراض أن عامل الثبات سيبقى بنفس القوة والتماسك والحيوية.
ما تواجهه الدولة الوطنية العربية من أزمات مصيرية وجودية، كالتي عرفتها البلدان التي انهار فيها النسق السياسي، أو فقد إمكاناته القديمة، يمكن فهم أسبابها ونتائجها، انطلاقاً من رصد وملاحظة ونقد سوء إدارة العلاقة بين الثابت والمتحول في النسق، ففي الوقت الذي تعاند فيه السلطة السياسية، بوصفها مكوناً مركزياً في نسق الدولة الوطنية، متطلبات التحوّل الضرورية للتكيّف مع التحولات التي طالت طبيعة مكونات النسق الأيديولوجية والاقتصادية ومراكز القوى، أو العلاقة بين مكوناته، مثل العلاقة بين السلطة والمجتمع، والعلاقة بين السلطة والفضاء العام، أو العلاقة مع التحولات في المحيط الإقليمي، يصبح من غير الممكن عملياً المحافظة على النسق في شكله وصورته القديمين.
وإذا كانت الدولة الوطنية العربية، بوصفها نسقاً، في معظمها، استمدّت شرعيتها التأسيسية من علاقات النسق مع الخارج/ الاحتلال، أي بناء النسق، انطلاقاً من وطنية عامة، هي نقيض الخارج، في لحظة تاريخية، كان هذا التناقض واقعاً، بل ضروري، في عملية التأسيس الأولى، لكن هذا العامل في بناء الوطنية، بوصفه عنصر ثبات في النسق، أخذ مع الوقت يفقد الكثير من ممكناته الواقعية، في مواجهة أزمات داخلية، تتمثل في المسائل الأساسية الحاكمة للدولة، أي القانون والعدالة والمشاركة في صناعة القرار والتوزيع العادل للثروة وحرية الرأي، وغيرها من القضايا التي أصبحت أكثر إلحاحاً مع الوقت.
إن العوامل الحاكمة للدولة (العقد الاجتماعي) هي في واقع الحال ذات صلة عضوية بمفهوم المواطنة نظرياً وعملياً، وإذا كان هذا المفهوم لم يكن متبلوراً في لحظة تأسيس الدولة الوطنية العربية فإن استمرار تغييبه، والمناورة عليه أيديولوجياً، كان سبباً رئيسياً في حدوث خلل في العلاقات داخل النسق، خصوصاً العلاقات التي تمنح مكوّن السلطة الشرعية، وبالتالي، فإن تآكل تلك الشرعية من وجهة نظر مواطنية، أي عدم قدرتها على تطوير النسق القديم إلى نسق حديث وحداثي، كان أحد أسباب تداعي النسق ككل، وليس فقط تآكل السلطة كلّها، أو أجزاء مهمة منها.
إن تداعي أو حتى فناء النسق القديم يضع مجتمعات ودولاً بأكملها اليوم أمام تحديات وجودية، ذات طابع صراعي، وسيكون الفشل في حسم الصراع لمصلحة نسق وطني مواطني جديد الوصفة المثالية لاستمرار وتعدّد الحروب في مجتمعات تبدّد نسقها القديم.
[email protected]
https://tinyurl.com/mr33zb77