ماكيافيلية دولية جديدة

00:24 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. ناصر زيدان

يعتقد الفيلسوف والسياسي الإيطالي نيكولو ماكيافيلي (1469 – 1527م) أن الغاية المرجوة تُبرر الوسيلة المستخدمة، بما في ذلك اعتماد تكتيكات ومناورات قد تخفي بعض التلاعب والخداع للحفاظ على السلطة ولتوسيع النفوذ، وهو يبرِّر للسياسيين إقامة تحالفات مع شركاء غير متوقعين، ولو تطلب الأمر تجاوز القيود الأخلاقية. لكن هذه النظرية كانت أحد أهم أسباب الحروب الأوروبية التي استمرَّت إلى ما يزيد على 30 عاماً في النصف الأول من القرن السابع عشر، وانتهت بمعاهدة وستفاليا للعام 1648، وهي المعاهدة التي أرست قواعد احترام سيادة الدول سواء كانت كبيرة أم صغيرة، كما أقرَّت فلسفة المشروعية كمستند لا بد منه للحصول على الحق، مهما كان نوع هذا الحق، بما في ذلك ملكية الثروة.
يشهد العالم نوعاً جديداً من الماكيافيلية، تتماشى مع العصرنة، وهي تستند إلى فرض الشروط بالإكراه، واستغلال النفوذ لتحقيق مصلحة مالية أو اقتصادية، ولا تُعير للقوانين الدولية أو الوطنية كثيراً من الاهتمام، كما تستخدم الذكاء الاصطناعي على غير مقاصده، للوصول إلى تجميع الثروة كما لو كانت مجرَّد أرقام يمكن تطويعها كوسائل جمع في العمليات الحسابية.
جرَّت الماكيافيلية الدولية ويلات على البشرية عندما اعتقد بعض المتنفذين عبر التاريخ، أن بإمكانهم تطويع الدول الصغيرة، أو الجماعات لخدمة أهدافهم الإمبريالية، وتحدّث كثير من الأباطرة في العصور الوسطى عما يُطلق عليه «المدى الحيوي» أي المساحة التي يمكن للامبراطوريات أن تتمدَّد فيها ساعة تشاء، وهي بمثابة غلاف حماية للمركز، أي للدولة الأم. وآخر تجربة لهؤلاء كانت للفوهرر الألماني أودلف هتلر في النصف الأول من القرن المُنصرم، وقد جرَّت العالم لويلات لا توصف، وانتهت إلى استخدام الولايات المتحدة للسلاح النووي المُدمِّر ضد اليابان عام 1945.
النصر الأمريكي في ذلك الحين، أعطى واشنطن أسهُماً إضافية في ورشة توليف الانتظام الدولي الذي ما زال قائماً حتى اليوم، بما في ذلك تأسيس منظمة الأمم المتحدة عام 1945، ومن ضمنها مجلس الأمن الدولي الذي يتألف من 15 دولة يمثلون القارات الخمس، وبينهم 5 دول دائمة العضوية لكل منها الحق بنقض أي قرار صادر عن المجلس قبل أن يولد، حتى ولو وافق عليه كامل الأعضاء الآخرين.
وكان للولايات المتحدة تضحيات مالية كبيرة في إعادة إعمار ما هدمته الحرب، خصوصاً من خلال مشروع «مارشال» في القارة الأوروبية التي كانت المسرح الأساس للحرب الضروس، وكان المشروع بمثابة المدماك الأساسي الذي تأسس عليه حلف شمال الأطلسي «الناتو» كما أسس لتعاون واسع ليس له مثيل في التاريخ، بين القارة الأوروبية وشمال القارة الأمريكية، وفي مختلف الميادين السياسية والعسكرية والمالية والصناعية والأيديولوجية، واستمرَّ التحالف بشيء من التوازُن على امتداد حقبة طويلة جداً من الزمن، وأسهم في إسقاط المنظومة الشيوعية المقابلة التي كان يقودها الاتحاد السوفييتي السابق، وكانت على تعاون مقبول مع الصين، ولكن التعاون لم يصل إلى حدود التحالف. لكن موسكو التي عادت إلى المربع الأول، حافظت على جزء كبير من مكانتها وحضورها الدوليين من خلال قوتها العسكرية والنفطية والجغرافية وبواسطة وراثتها للعضوية الدائمة في مجلس الأمن. أما الصين فقد وسّعت بساطها الدولي بعد العام 1990 بالقنوات التجارية والصناعية، وانكفأت عن الصراعات الدولية الكبرى، برغم أنها عضو دائم في مجلس الأمن الدولي أيضاً.
شكل جديد من الصراع الدولي بدأ يطفو على سطح الملفات الكبرى، وتبين أن القوة الناعمة أصبحت تُخيف اللاعبين الدوليين أكثر من التحشيد العسكري الميداني المُكلف. ولا بد من إيقاف الانتشار التجاري الناعم بواسطة القوة العسكرية، لأن «التنين» الإنتاجي الزاحف، تمرَّد على الفضاء السيبراني، أو أنه تعايش معه، وبدت كفَّة الصين على توازن دقيق مع الكفَّة الأمريكية، ويبدو أن أوروبا تعود لتمثل دور الضحية من جديد، برغم أنها تجاوزت كل المُقيدات والكوارث وحافظت على مكانة حضارية وقانونية مُتقدمة بين أمم الأرض.
يندرج الصراع القائم في أوروبا، كما في الشرق الأوسط الذي يعتبر ساحة سباق على الأدوار الكبرى، بمخاطر كبيرة، ويتحوَّل الحلفاء إلى خصوم بين ليلة وضحاها، والحرب في أوكرانيا، كما الحرب العدوانية الإسرائيلية في الشرق الأوسط، جزء من عدة التسابق الماكيافيلي المتفلِّت من قيود الأخلاق والقانون، ويبدو أن التسابق يستهدف استثمار هذه المناطق المهمة من العالم، لتطويق اندفاعة المارد التجاري الصيني و«مبادرة الحزام والطريق»، كما محاصرة أوروبا وتطوير قيود الخوف حولها، وكل ذلك يجري بتنفيذ مقاربة جديدة تعتمد على إبعاد حلفاء أوروبيين وتقريب أعداء من روسيا والشرق، وتتكفل إسرائيل بتفخيخ قلب العالم وممراته المهمة، بما يبعث الخشية أما انسياب التجارة الصينية، ويُقلِّص تأثير الأوروبيين، وربما يكفل حياد روسيا في أي صراع أو توتر قد يحصل بين واشنطن وبكين في المستقبل، ولا بأس إذا حصل المتصارعون على مزيد من الثروات والمكاسب في سياق تنفيذ المقاربة الماكيافيلية الجديدة، كما لا بأس إذا حرقت الوسيلة المستخدمة غلالاً كثيرة في طريقها نحو تحقيق الهدف المنشود.. مع الماكيافيلية الجديدة، العالم أقل أماناً.

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم السياسية والقانون الدولي العام.. أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية.. له 10 مؤلفات وعشرات الأبحاث والمقالات والدراسات في الشؤون الدولية..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"