د. يوسف مكي
في مقالنا السابق، تحت عنوان «أنقذوا سوريا من محنتها»، تناولنا المستجدات بالأوضاع السورية، وأشرنا إلى أن معالجة الأوضاع المتردية، في البلد الشقيق، ليست حكراً على أهله، بل هي مسؤولية عربية جماعية. وفي الأيام القليلة التي مضت، حدث انهيار شامل بالبلاد، وبشكل خاص في جبال العلويين، بمدينتي اللاذقية وطرطوس، والبلدات المحاذية لهما، نتج عنها مصرع المئات من المواطنين، جلهم من المدنيين، الأطفال والنساء والشيوخ، تحت ذريعة القضاء على ما أطلق عليه فلول النظام السابق.
لا نهدف في هذه السطور، إلى الوقوف مع فريق، من السوريين، على حساب فريق آخر، فالجميع أشقاؤنا، وأهل لنا، ولكن ذلك لن يحول دون إدانة قتل المدنيين، الذين لا ناقة لهم ولا جمل في ما يجري الآن. والوضع يغدو أكثر، مدعاة للاستنكار، حين يتأكد ما تتناوله وكالات الأنباء، عن وجود آلاف المقاتلين التكفيريين، الذين وفدوا من خارج الأراضي السورية، من الشيشان والإيغور، وقد تجمعوا منذ فترة طويلة في إدلب.
الرئيس السوري الحالي، كان ينتمي في الأصل إلى تنظيمات عليها تحفظات عربية ودولية، وجرى الاعتراف بأحمد الشرع، رئيساً مؤقتاً. وكان المؤمل أن يجري التعلم من دروس السابق، وأن يعمل العهد الجديد، على منع تسلل الجماعات التكفيرية للأراضي السورية، خاصة المناطق التي تعج بمكونات مذهبية، غير سنية. لكن ذلك لم يتحقق للأسف، وانتهت الأمور بما لا يحمد عقباه.
الوضع الراهن، نقل القضية السورية، من قضية محلية، إلى قضية عالمية، فوزارة الخارجية الأمريكية، صرحت في بيان رسمي، بأن واشنطن تدين «الإرهابيين الإسلاميين المتطرفين، بمن في ذلك الجهاديون الأجانب، الذين قتلوا الناس في غرب سوريا خلال الأيام الأخيرة»، ويضيف البيان أن «الولايات المتحدة تقف إلى جانب الأقليات الدينية والعرقية في سوريا، بما في ذلك المجتمعات المسيحية والدرزية والعلوية والأكراد، وتقدم تعازيها للضحايا وأسرهم».
وفي باريس، نددت الخارجية الفرنسية، بأشد العبارات، ب«التجاوزات التي طالت مدنيين على خلفية طائفية في سوريا، إثر اشتباكات نتيجة شن مجموعات مسلحة على القوى الحكومية». ودعت السلطات الفرنسية في بيان «السلطات السورية الانتقالية إلى ضمان إجراء تحقيقات مستقلة تكشف كامل ملابسات هذه الجرائم، ومحاسبة مرتكبيها»، وكررت تمسكها بانتقال سياسي سلمي وجامع، بمعزل عن التدخلات الخارجية، يكفل حماية التعددية الإثنية والطائفية في سوريا، مؤكدة أن ذلك الأمر هو «السبيل الوحيد لتجنب إغراق البلاد في التفكك والعنف، وعدم توفير أي جهد لتحقيق هذه الغاية».
وقد دانت مجموعة السبع، الهجوم على المدنيين في غرب سوريا، وطالبت بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة لمحاسبة الجناة. وبالمثل، دان مجلس الأمن الدولي، بشدة العنف الذي وقع غرب سوريا، بما في ذلك، عمليات القتل الجماعي ضد المدنيين، خاصة من الطائفة العلوية، داعياً الحكومة السورية، لقطع دابر الإرهابيين الأجانب. وقد أكد البيان التزام الأسرة الدولية، بوحدة الأراضي السورية، وسلامتها الإقليمية، وضرورة الالتزام بحقوق الإنسان، والقانون الإنساني الدولي، في جميع الظروف. وطالب بضمان وصول إنساني كامل وآمن وغير مقيد، للمتضررين، وضمان معاملة إنسانية لجميع الأشخاص.
والواقع أن بيان مجلس الأمن الدولي، هو الأكثر وضوحاً وتفصيلاً في مطالباته بإدانة المتسببين في جرائم القتل التي حدثت بالغرب السوري. وكان في تحذيراته وبنوده، قد اقترب من البيانات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، التي تتبنى الفصل السابع، الذي يجيز استخدام كافة الوسائل لتطبيق قراراته.
في الوطن العربي، دانت المملكة العربية السعودية والإمارات ولبنان ودول عربية أخرى، ما يجري من حرب إبادة بحق الشعب السوري، وطالبت بوقفه فوراً، وتشكيل هيئات تحقيق مستقلة لمحاسبة الجناة.
هل تتكفل جملة البيانات التي أشرنا لها، والتي تعبر عن نوايا طيبة تجاه الشعب السوري، بوقف المجازر التي يتعرض لها هذا الشعب، وهل بالإمكان الاطمئنان إلى جملة التصريحات التي صدرت عن بلدان الطوق، المحاذية لسوريا؟ وإذا كان الأمر كذلك، فمن أين يدخل الجهاديون والإرهابيون، إلى المناطق السورية، وما هي الجهات التي تقوم بتسليحهم؟ المواقف المعلنة للقوى الإقليمية والدولية، حيال سوريا، بحاجة إلى تدقيق، خاصة أن تاريخ بعض الدول المجاورة، مشوب بسلوكيات مخالفة للنوايا الحسنة التي يجري التعبير عنها.
هناك خشية كبيرة، من تقسيم سوريا، خاصة بعد البيان الدستوري الذي صدر عن حكومة الأمر الواقع، والذي اعتبر من محافظات سورية، كما هو حال السويداء، وأيضاً المجموعات الكردية، غير متسق مع احترام مكونات الشعب السوري. والخطورة أن الجماعات المعارضة، تملك إمكانات عسكرية تضيف ثقلاً عملياً إلى موقفها السياسي. وهذه الجماعات ترفض تسليم أسلحتها، معتبرة ما جرى في الغرب السوري، بمثابة رسالة لها، عن خطورة تسليم السلاح للنظام في دمشق.
سوريا تمر بأيام حزينة، ولن تتجاوز ذلك، إلا بوقف نزف الدم، ومحاولات التقسيم. ولن يتحقق ذلك إلا بموقف عربي شجاع، يعمل على تضميد الجراح، ومعالجة ما اندمل، وإعادة الأمن والاستقرار، والاعتراف بالمكونات التي صنعت تاريخ سوريا، وبما يكفل إعادة البسمة والفرح، وبناء المستقبل الواعد لكل السوريين.