الفوات التاريخي.. ومقاومة الحداثة

00:39 صباحا
قراءة 4 دقائق

حسام ميرو

بدأت أولى مقاربات الفوات التاريخي في العالم العربي، انطلاقاً من مقارنة الذات الجمعية مع الآخر الغربي الكولونيالي، وعُمل على تفكيك هذه الظاهرة في مراحل تاريخية مختلفة من عمر الدولة الوطنية العربية، بعد الاستقلال عن الانتدابات، وبقي مجال المقاربة لهذه الظاهرة يتمحور بشكل كبير نسبياً حول الآخر، بوصفه مركزاً للمقارنة، وهو أمر يبدو منطقياً لجهة السيرورة التاريخية، فمنذ انهيار الخلافة العثمانية ونموذجها السلطاني في الدولة والحكم، كان الآخر الغربي حاضراً منذ اللحظة الأولى، بوصفه الفاعل الأساس في صياغة تشكّل المنطقة، خصوصاً عبر اتفاقية سايكس-بيكو.
بطبيعة الحال، كانت بدايات تفكيك ظاهرة الفوات التاريخي العربي، تحتوي على كثير من العمومية والتبسيط، إذ خلت إلى حدّ كبير من الاستناد إلى مناهج علم الاجتماع الاقتصادي والسياسي، وقدّمت قراءة وصفية نقدية للظاهرة، من دون أن تتمكّن من الاشتباك مع المنظومات الحاكمة للظاهرة، أو ما يمكن تسميته البنى المتضمنة في منظومة الفوات التاريخي العربية.
كذلك، لم تخلُ عملية تفكيك ظاهرة الفوات التاريخي عند التنويرين الأوائل من انبهار بالغرب وقيم الحداثة، من دون أن يكون هناك التقاط واسع لجذور ظاهرة الحداثة، وهو أمر يمكن ردّه إلى ضعف الاطلاع على تجربة الحداثة، نظراً لندرة عملية الترجمة، لكن هذه الحال ستتغيّر في ستينات القرن الماضي لأسباب عديدة، في مقدّمتها صعود المشروع القومي العربي، حيث سيصبح للأيديولوجيا مكانة مهمة في عمل عدد من المفكرين القوميين والماركسيين، الذين أسهموا بدورهم في تحليل الظاهرة.
لعبت نكسة حزيران/يونيو عام 1967 دوراً مفصلياً في تركيز عدد من المفكرين العرب على دور الأيديولوجيا في الهزيمة، وللمرة الأولى يذهب علم الاجتماع العربي إلى تقصي بنى المجتمع، والكشف عن الديناميات المتأخرة فيه من مواقع مختلفة، فكتب المفكر المغربي عبد الله العروي «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» في عام 1970، ونشر المفكر السوري ياسين الحافظ كتابه «الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة» عام 1977، وقد بدأ بتأليفه بعد النكسة مباشرة، كما نشر عالم الاجتماع الفلسطيني هشام شرابي كتابه «مقدّمات في دراسة المجتمع العربي» في عام 1975، وكانت هذه الإسهامات التأسيسية خطوة نحو تقديم قراءة معرفية منهجية لظاهرة الفوات التاريخي، تتناول حقلاً مفاهيمياً واسعاً، من مثل الدولة، النظام السياسي، البنى الأيديولوجية، الإنتاج، السلطة، السلطة الأبوية، الفرد، الجماعة، العادات، التراث.
في مواجهة الحداثة، وتعبيرها الدولة/ الأمة الغربي، اختارت معظم الدول الوطنية العربية أن تبني نموذجاً هجيناً، في واجهته مؤسسات حديثة، في المجالات التنفيذية والقضائية والتشريعية والخدمية، لكن هذه الحداثة بقيت برانية شكلية، غير مؤسسة على بناء اقتصادي اجتماعي مطابق لها، في الوقت الذي بقيت فيه بنى الفوات التاريخي، وتمثيلاتها من هويّات فرعية، تلعب الدور المحرك لمجمل العمليات الاجتماعية، وعلاقات القوة في المجتمع والسلطة.
في الثقافة السياسية العربية، بقي مفهوم الشعب مفهوماً ملتبساً، وقد شحن بحمولات تاريخية، جعلت منه أقرب إلى جماعة متخيلة، أكثر من كونه صيرورة تاريخية ينبغي العمل على تعيينها في عمليات الإنتاج للواقع، كما شحن مفهوم الشعب أيديولوجياً وفق رؤية السلطة السياسية، من دون أن تكون مؤسسات السلطة ذاتها ممثلة للفئات الشعبية، بقدر ما كانت تعبيرات انقلابية، كما في العديد من دول العالم العربي، التي تشكّل تاريخها السياسي عبر سلسلة من الانقلابات، وليس عبر تطور تاريخي تتطوّر فيه السياسة مع تطور العلاقات الاقتصادية الاجتماعية.
في هذا الفضاء السياسي الهجين، حدثت عملية إعادة إنتاج مستمرة للبنى التاريخية المفوّتة، والتي استخدمتها العديد من الأنظمة السياسية كأداة للضبط والمعايرة الاجتماعيين، عبر عمليات الولاء والمحسوبية، وعوضاً من أن تتطوّر الدولة باتجاه الحداثة، أي أن تكون مؤسسة خدمات عامّة، تحوّلت إلى منظومة محسوبيات، أصبحت تسمى في أدبيات الاقتصاد السياسي «دولة المحسوبيات»، حيث تشرف دائرة ضيقة في النظام السياسي على عملية توزيع حصص الإنتاج والأرباح والعمولات، مستفيدة من التناقضات الموجودة في البنى الاجتماعية نفسها.
إن اهتراء وتهالك الدولة الوطنية العربية، كما شاهدناه في عدد من دول المنطقة، هو اهتراء متوقّع من جهة استنفاد هذه الدولة لإمكانات استمرارها، فقد عاندت لوقت طويل مستحقّات تحديث وحداثة الدولة ومؤسساتها، في الوقت الذي مضت فيه العولمة خطوات واسعة، عبر ثورتها الصناعية الرابعة، ثورة التقانة والمعلومات، وجرت تحوّلات هائلة في اقتصادات السوق، التي أصبحت تعتمد أكثر فأكثر على اقتصاد المعرفة، بينما بقيت معظم الدول الوطنية العربية تقاوم اقتصاد السوق من جهة، وتقاوم الحاجة إلى فتح أفق التنظيم السياسي والنقابي والاجتماعي من جهة ثانية.
مقارنة بفترات سابقة من التاريخ العربي المعاصر، فإن عدداً من الدول التي دخلت في نفق الحرب الأهلية، شهدت انتكاسة كبيرة عن العقود الثلاثة الأولى ما بعد الاستقلال، فمع تدهور الدولة في هذه البلدان، صعدت البنى المفوّتة إلى واجهة السلطة والصراع السياسي الاجتماعي، وهي لا تحمل في جعبتها أي مشروع حديث، بل يبدو أن جلّ اهتمامها أصبح زيادة مقاومة الحداثة في الداخل، وزيادة التبعية للخارج، مع عدم غياب أي تصوّر حديث لمنطق الدولة والمؤسسة.

[email protected]

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"