عادي
بدائع الكون في القرآن

القسم بالقمر

00:50 صباحا
قراءة 5 دقائق
1

أ.د.حميد مجول النعيمي

لقد أقسم الله بالقمر وبما بعده: فقال عز وجل: «كَلا وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ، إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ، نَذِيرًا لِلْبَشَرِ، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ» المدثر 32-37.

حميد مجول

للقمر علاقات رياضية مهمة بموضوعات تتعلق بالطقس وعدد أيام السنة وما إلى ذلك، فمدة دورانه حول نفسه تعادل مدة دورانه حول الأرض، الأمر الذي يعني أنه كلما يظهر لنا سيبدو بوجه واحد لا يتغير في جميع أنحاء العالم. وتتسبب ظاهرتا المد والجزر في حركة خفيفة للقمر بموجبها يبتعد ويقترب من الأرض بواقع 0.4 سم سنوياً. والظاهرتان ليستا بسبب الجاذبية فحسب وإنما ناتجتان عن العلاقة الزمنية المنتظمة بين جاذبية كل من الشمس والقمر ودوران الأرض حول نفسها. والمد والجزر لا يعنيان ارتفاع وانخفاض منسوب مياه البحر وحدها، فهما يحفظان حركة الأرض المنتظمة، فبغيرهما يعتقد الكثير من العلماء بأن الأرض وخلال ملايين السنين ستتغير حركتها وقد تدمر الحياة فيها، والله أعلم.
وفي الآيات الكريمات أعلاه نجد أن قَسَم الله عز وجل لم يأتِ اعتيادياً؛ بل لأهمية هذا الجرم السماوي الصغير، فله فوائد عديدة لا تحصى ولا تُعَد، فهو الأكثر لمعاناً في السماء بعد الشمس على الرغم من أن سطحه معتم جداً بسبب انعدام الغلاف الجوي على سطحه وظهوره في أطوار مختلفة في السماء ليلاً. ودورته المنتظمة المراحل قد جعلت له على مر العصور القديمة تأثيراً نفسياً وثقافياً مهماً في كل من اللغة والفن والأساطير القديمة، فضلاً عن استخدام حركاته وأطواره في مختلف أنواع التقاويم ومنها التقويم القمري الهجري الذي يعتمد الدورة الاقترانية لحركة القمر حول الأرض نسبة إلى الشمس اعتماداً على الآية الكريمة: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» البقرة 189.
ومن خواصه المهمة أيضاً تأثير جاذبيته في الأرض التي تنتج ظاهرتي المد والجزر اللتين تؤلفان قوتين مديتين على الأرض، ومن خواصه الأخرى ظاهرتا كسوف الشمس وخسوف القمر، وبما أنه معدل بعده عن الأرض (384400) كم وتقدر بثلاثين مرة قدر قطر الكرة الأرضية، فإنها تتسبب بأن يبدو القمر أغلب الوقت بنفس حجمه دون تغيير في السماء كما هي الحال مع الشمس، وذلك يسمح للقمر بأن يغطي الشمس بصورة شبه تامة في ظاهرة الكسوف الكلي للشمس، علماً بأن القمر يملك غلافاً جوياً رقيقاً للغاية إلى حد يمكن أن نقول إنه معدوم تقريباً.
ويُعّد القمر الوحيد من بين الأجرام السماوية الذي هبط عليه البشر بأقدامهم من خلال برنامج «أبولل»و الفضائي التابع لوكالة الفضاء الأمريكية «ناسا»، وكان أول هبوط في يوليو/تموز 1969 خلال رحلة «أبوللو 11» واستمر لعدد من المرات إلى عام 1972. وخلال هذه المدة وبعدها مع تقنيات الأقمار الصناعية بدأت واستمرت الثورة التكنولوجية الفضائية الأرضية لاستكشاف الكون ومختلف أجرامه السماوية، فضلاً عن أن كثيراً من هذه التكنولوجيات استخدمت على سطح الأرض لفائدة البشرية في الطب والعلوم الصحية والهندسية والاستشعار عن بعد لدراسة موارد الأرض الطبيعية بما في ذلك استكشاف أعماق البحار من الفضاء و التكنولوجيات الفضائية العسكرية والأمنية. ومن خلال ذلك استمر التسارع التكنولوجي وتم ابتكار أجهزة ومعدات ووسائل تقنية عديدة نستخدمها الآن في حياتنا اليومية مثل الهواتف النقالة ووسائل التواصل الاجتماعي والاتصالات والمواصلات والنقل وغيرها. وها نحن اليوم نجد الثورة التكنولوجية في تسارع منقطع النظير لدرجة أن كثيراً من دول العالم لا يستطيع اللحاق بها؛ إذ التسارع التكنولوجي اليوم أسرع من الأمس والغد أسرع من اليوم وهكذا.
وكما نعلم، فإن القمر سحر الإنسان منذ كان في الكهوف أو في الصحراء، وأدرك فيما بعد أن القمر هو الشريك الرئيس للأرض في حدوث ظاهرتي خسوف القمر وكسوف الشمس فضلاً عن ظاهرتي المد والجزر، وأقيمت له المعابد في الحضارات القديمة، كما استعين به في مواقيت الزراعة وتعيين الاتجاهات في عرض البحار. وسواء أكان القمر بدراً أم هلالاً، فإنه لا يزال يضفي رومانسية في الليل، فأحبه الشعراء وكتبوا عنه كثيراً وهام به العشاق، فضلاً عن استخدام حركاته ومدة دورانه حول الأرض في حساب التقاويم القمرية، «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ»، الأشهر والسنوات القمرية ومنها الهجرية..الخ.
أما الآن في عصر التكنولوجيا فيريد العلماء من القمر غير الذي أراده منه القدماء، فإنهم يرغبون في أن يجعلوا منه منصة إطلاق (مطار كوني) إلى الفضاء الخارجي، كما يفكر العلماء في بناء مستوطنات بشرية على سطحه عند القطبين أولاً، لأن هناك اعتقاداً الآن بوجود جليد ماء في شقوق لم تصلها أشعة الشمس منذ مليارات السنين.
بطبيعة الحال، سيكون العلماء المستوطنين الأوائل، وحين تستقر الأمور يتم إنشاء البنية التحتية، وستلحق بهم عائلاتهم وذووهم، وستصمم هذه المستوطنات لتصبح مكتفية ذاتياً بكل شيء، أي استيطان القمر واستخدام مادته لبناء محطات ومدن فضائية مدارية.
وبسبب انخفاض الجاذبية على سطح القمر (سدس جاذبية الأرض)، ستزدهر صناعات يصعب تحقيقها على الأرض، ويتم نقل المصانع الذرية والنووية من الأرض إلى القمر، ويتم بناء مناجم لاستخراج المواد الأولية والمتوافرة لصناعة السيراميك والإسمنت لاستخدامها في مستوطنات الفضاء مستقبلاً أو حتى في الأرض.
واليوم، تعلن المنظمات الفضائية ومنها «ناسا» عن عزمها تنظيم رحلات تجارية مأهولة إلى القمر بحلول عام 2030 وبيع مقاعد ومساحات الحقائب للأفراد الأثرياء والشركات وغيرها، فضلاً عن استخدام سطح القمر كقاعدة انطلاق إلى كوكب المريخ بالدرجة الأولى و من ثم إلى الكواكب الأخرى والفضاء الخارجي.
سيقود هذه الجهود علماء ومهندسون في بعض وكالات الفضاء الدولية من خلال توظيف الصواريخ التجارية للنقل. ونعلم اليوم جميعاً أن العديد من المنظمات الفضائية تحاول العودة إلى القمر، ومن ضمنها مركز محمد بن راشد للفضاء الذي يخطط لإنزال المستكشف «راشد» في نهاية عام 2022 لدراسة سطح القمر بعد غزو المريخ من خلال «مسبار الأمل»، لأن المريخ أقرب الكواكب إلينا وغلافه الجوي المؤلف 96% غاز ثاني أوكسيد الكربون، و1.9% نيتروجين، والبقية آثار من الأوكسجين الحر وأول أوكسيد الكربون و الماء و الميثان، مشابه للغلاف الجوي للأرض عند بداية تكوينها ويعتقد العلماء بأنه سيكون في المستقبل البعيد بيئة خصبة لسكن البشر على سطحه.
وبناء على ما سبق، فإن القمر، ولأهميته الكبيرة للكرة الأرضية والبشرية على سطحها، يستحق العودة إليه فضائياً لغزوه وجعله مدينة تواصل مع الفضاء الخارجي، خاصة مع الكواكب القريبة من الأرض وكذلك يستحق قسم الله العظيم به، وكذلك بالشمس والأرض وظواهرهما الفلكية مثل الليل والنهار..الخ، لأهميتها الكبيرة للبشرية.
مدير جامعة الشارقة 
رئيس الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"