الخنساء . . استشهد أبناؤها الأربعة فحمدت الله

نساء . . ومواقف
02:42 صباحا
قراءة 6 دقائق
منذ أن بزغ فجر الإسلام ليحرر الإنسان من العبودية لغير الله عرفت مسيرته الخيرة نساء عظيمات خلدهن التاريخ بما قدمن من تضحيات، وما سجلن من مواقف مشرفة كان لها أثرها في انتشار رسالة الحق في ربوع العالم .
ونحن هنا نقدم نخبة مختارة من النساء الخالدات اللاتي يعتز بهن الإسلام، لنوضح للمرأة المسلمة المعاصرة حجم العطاء المنتظر منها تجاه دينها ووطنها وأسرتها، خاصة في هذا الزمن الذي يموج بتحديات ومشكلات جمة تحاول صرف المرأة عن القيام بدورها الذي رسمه لها دينها الحنيف .
بعض نساء المسلمين يحملن قلوباً أقوى من قلوب الرجال ويتمتعن بصبر نادراً ما تجد له مثيلاً عند الصابرين الراضين بقضاء الله وقدره، ويملكن حكمة تفوق ما عند الحكماء البلغاء الذين رزقهم الله صدق الإيمان وجميل البيان .
وضيفتنا الكريمة اليوم ضربت المثل والقدوة في الصبر والرضا بقضاء الله وقدره، وفي الشعر غلبت فحول الشعراء، وبحكمتها أسكتت وأبهرت الحكماء والبلغاء .
إنها تماضر بنت عمرو بن الحرث المعروفة باسم الخنساء بنت عمرو (575 - 664) وكانت تسكن في إقليم نجد ولقبت بهذا الاسم بسبب ارتفاع أرنبتي أنفها .
والخنساء من أشهر شعراء الجاهلية، وقد طغى على شعرها بعد مقتل أخويها معاوية وصخر الحزن والأسى والفخر والمدح، وقال عنها النابغة الذبياني: "الخنساء أشعر الجن والإنس" .

حزن لا ينقطع

وأقبلت الخنساء على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وفد من قومها وأعلنت إسلامها، وكان عليه الصلاة والسلام يستمع إلى شعرها .
سألها عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يوماً: ما أقرح مآقي عينيك؟
قالت: بكائي على السادات من مضر .
قال: هم في النار يا خنساء .
قالت: كنت أبكي لهم من الثأر، واليوم أبكي لهم من النار .
وقد أدت الخنساء رضي الله عنها فريضة الحج في خلافة عمر، وعندما لامها على ارتداء ملابس الجاهلية حزناً على أخويها، أنشدت قصيدة تعجّب منها عمر لبلاغتها وقال لأصحابه: دعوها، فإنها لا تزال حزينة .
ويروى أن الخنساء دخلت يوماً على السيدة عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - وهي ترتدي خماراً ممزقاً وصداراً من الصوف، وهي ملابس الحداد للنساء على الراحلين في الجاهلية وتدب على عصاها من الكبر، ودار بينهما الحوار التالي:
يا خنساء .
- لبيك يا أماه .
أتلبسين هذا الرداء وقد نهى عنه الإسلام؟
- لم أعلم بهذا .
وما الذي دفعك إلى هذه الحال؟
- موت أخي صخر .

أخ نادر

وهنا كشفت الخنساء خصال أخيها صخر، وسر حزنها عليه للسيدة عائشة رضي الله عنها، حيث كان زوجها مقامراً متلافاً وأراد أن يغادر أو يسافر فطلبت منه الانتظار، على أن تطلب المساعدة من أخيها صخر - وهو أخ من أب - وعندما سألته شاطرها ماله (أي أعطاها نصفه) فأعطته لزوجها فقامر به وخسر .
وعادت إلى شقيقها تشكو حالها، فكرر معها صخر ما سبق، وكرر زوجها ما فعل .
وفي المرة الثالثة تدخلت زوجة صخر، وكان اسمها سلمى، وطلبت منه أن يكف عن مساعدة هذا الزوج المقامر، وأن يعطي أخته القليل على قدر حاجتها، فأنشد شعراً يؤكد فيه أن مساعدتها واجبة عليه، لأن أخته أولاً صانت شرفه بعفتها وسيرتها الطيبة، وتخاف عليه وهو على قيد الحياة، وتحزن عليه إذا مات . وأعطى صخر نصف ماله إلى أخته، ووفت هي بعهدها وقالت: والله لا أخلف ظنه ما حييت .
ومما سبق يظهر سر حزن الخنساء على أخيها "صخر" وهو أخ من أب، كما سبق القول أكثر من حزنها على أخيها لأمها "معاوية"، رغم رحيل الشقيقين قتيلين، فصخر كان أكثر عطفاً عليها ورعاية لها، هذا فضلاً عن أنها تشعر بالذنب حيث حرضته على الثأر لأخيه الذي مات مقتولاً مما تسبب في إصابته إصابة أدت إلى موته . . ومما قالته في رثائه وهي ترسم صورته وتحدد أوصافه:
ما بال عينك منها دمعها سرب
                  أراعها حَزَن أم عادها طرب
أم ذكر صخر بعيد النوم هيجها
              فالدمع منها عليه الدهر ينسكب
يا لهف نفسي على صخر إذا ركبت
                خيل لخيل تنادي ثم تضطرب
قد كان حصناً شديد الركن ممتنعاً
               ليثاً إذا نزل الفتيان أو ركبوا
أغر أزهر مثل البدر صورته
           صاف عتيق فما في وجهه ندب
يا فارس الخيل إذ شدت رحائلها
           ومطعم الجوع الهلكى إذا سغبوا

صبر عجيب

من أعظم المواقف التي تسجل للنساء صبرهن على رحيل فلذات أكبادهن في ساحات الجهاد والكفاح الوطني، وقد سجلت الخنساء اسمها بحروف من نور في قائمة الأمهات الصابرات المحتسبات، حيث ابتليت برحيل أولادها الأربعة (عمرة، وعمرو، ومعاوية ويزيد) في معركة القادسية وكانت مثالاً للأم الصابرة الثابتة قوية الإيمان .
وكانت الخنساء قد حثت أبناءها الأربعة على القتال دفاعاً عن الدين والوطن حيث تنقل لنا الروايات الموثقة أنها وقبل بدء القتال أوصتهم فقالت: "يا بني لقد أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا هو إنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم"، إلى أن قالت: "فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، وجعلت ناراً على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها، تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والقيامة" .
وعندما دارت المعركة استشهد أولادها الأربعة واحداً تلو الآخر، وحينما بلغ الخنساء خبر مقتل أبنائها الأربعة كانت نعم الأم المؤمنة الصابرة ورددت كلمات تعبر عن عمق إيمانها .
وهكذا كانت وصية الخنساء الأم المسلمة المؤمنة لفلذات كبدها قبل المعركة وصية خالدة تجسد قوة إيمانها وصبرها وحبها لأولادها، فما أعظم الشهادة دفاعاً عن الدين والوطن والكرامة .
وكان الأبناء الشهداء نعم الأبناء حيث كانوا في الصباح الباكر في مقدمة الصفوف ينفذون وصية الأم الحكيمة، ولما بلغها خبرهم قالت كلماتها المأثورة التي عاشت على جبين الزمان على مدار الأيام والأعوام: "الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم جميعاً في سبيل الله ونصرة دينه وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته" .
لم يكتب الله لها شرف الشهادة في ميادين القتال، لكنه كتب لها أجراً وثواباً يفوق أجر من ضحى بروحه فداء لدينه أو وطنه أو دفاعاً عن حرماته وكرامته جزاء ما صبرت على فراق أبنائها الأربعة الذين استشهدوا واحداً تلو الآخر في معركة القادسية التي تعتبر من أهم المعارك المصيرية في تاريخ الإسلام .

نجمة عكاظ

في سوق عكاظ كان النابغة الذبياني يجلس تحت قبة حمراء، ويستمع إلى قصائد الشعراء ويحكم بينهم ويحدد مراتبهم، وفي إحدى السنوات أنشدت الخنساء قصيدتها الرائعة في رثاء أخيها صخر التي تقول في مطلعها:
قذى بعينيك أم بالعين عوار
أم أقفرت إذ خلت من أهلها الدار
كأن عيني لذكراه إذا خطرت
فيض يسيل على الخدين مدرار
وأعجبت القصيدة النابغة وقال لها: لولا أن الأعشى أنشد قبلك، لفضلتك على شعراء هذه السنة، فغضب حسان بن ثابت وقال: أنا أشعر منك ومنها .
فطلب النابغة من الخنساء أن تجادله، فسألته: أي بيت هو الأفضل في قصيدتك فقال:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
قالت له: إن في هذا البيت سبعة من مواطن الضعف .
قال: كيف؟
فقالت الخنساء: الجفنات دون العشر، ولو قلت الجفان لكان أكثر، وقلت "الغر" والغرة بياض في الجبهة، ولو قلت "البيض" لكان البياض أكثر اتساعاً، وقلت "يلمعن"، واللمعان انعكاس شيء من شيء، ولو قلت "يشرقن" لكان أفضل، وقلت "بالضحى" ولو قلت "الدجى" لكان المعنى أوضح وأفصح، وقلت "أسيافاً" وهي دون العشرة، ولو قلت "سيوف" لكان أكثر، وقلت "يقطرن" ولو كانت "يسلن" لكان أفضل، فلم يجد حسان كلمة يرد بها .
كانت حياة الخنساء حافلة بالحزن والصبر على أبنائها الشهداء وأخويها القتيلين، وكانت أيضاً حافلة بالإبداع الشعري، وتدفقت من أشعارها كل ألوان الحكمة وظلت تعطي في شيبتها حتى ماتت في أول خلافة عثمان بن عفان، رضي الله عنه (سنة 24 هجرية - 646 ميلادية) .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"