شروط الانتقال إلى الربيع الاقتصادي

04:26 صباحا
قراءة 5 دقائق

تجري محاولات في العالم العربي للتخلص من الاستبداد ولاعتماد الديمقراطية الانتخابية على مختلف المستويات . لم تستقر الأوضاع بعد لأن عمليات تغيير أو انتقال بهذا الحجم لابد أن تواجه العديد من المطبات والحواجز والعوائق، ولن تحصل نتائج ايجابية ملموسة الا بعد سنوات من العمل الشاق . في الاتحاد السوفييتي السابق كما في أوروبا الشرقية، بدأ التغيير في سنة 1989 لكن النتائج الإيجابية لم تظهر إلا بعد سنوات عدة بل ان الناتج انحدر في السنوات الأولى التي لحقت التغيير السياسي . لا يمكن قلب المؤسسات والقواعد والقوانين والعادات بسهولة، خاصة أن منافع كثيرة متجذرة في النظام القديم لابد أن تدافع بل تقاوم التغيير . في بلغاريا مثلاً، انخفض الناتج المحلي الاجمالي 7% سنوياً بين سنتي 1996 و،1998 بينما لم يكن الانحدار الا بنسب 2 .5%، 4 .4% و 3% في كل من رومانيا وأوكرانيا وروسيا . فالدولة العظمى روسيا لم تنتقل بعد فعلياً الى مصاف الدول المتقدمة ديمقراطياً، وما الانتخابات الأخيرة إلا لتظهر جلياً هذا الواقع . حتى لو استثمرت روسيا كثيراً في التعليم التقني ونجحت به، لم تستطع انضاج مجتمع ديمقراطي حيوي كما حصل في أوروبا الشرقية .

بين سنتي 1990 و ،2008 ارتفع عدد خريجي الجامعات الروسية من 401 ألف الى مليون و359 ألفاً علماً أن التوزع اختلف جداً بحيث ارتفعت حصة متخرجي الأعمال والاقتصاد من 14% إلى 35% ما يشير إلى نقلة نوعية في التفكير الاقتصادي لمجتمع ينتقل من نظام الى آخر . مقارنة بالدول الناشئة الأساسية، يبلغ عدد الباحثين في روسيا391 ألفاً مقارنة ب 85 ألفاً في البرازيل ومليون ومئة ألف في الصين و116 ألفاً في الهند . نسبة لعدد السكان، تأتي روسيا في الطليعة ثم الصين فالبرازيل والهند . في الإنفاق على البحث مقارنة بالناتج، تأتي الصين (33،1%) أولاً ثم روسيا (07،1%) فالبرازيل (83،0%) والهند (69،0%) . في سنة 2009 أي سنة الأزمة المالية العالمية وبينما حققت الصين نسبة نمو قدرت ب 9%، انخفض الناتج الروسي بنسبة 8% ما يشير الى عدم انعكاس الاستثمارات الكبرى في البحث والتطوير على الاقتصاد العام .

انتقال روسيا من النظام الشيوعي الى الرأسمالي يعتبر مضرب مثل ليس من حيث النجاحات المحققة وانما خاصة من ناحية العوائق التي تواجه مجتمعات ترغب في التغيير والانتقال كما يحدث اليوم عربياً . اعتمد الرئيس بوتين ثم الرئيس مدفيديف وبعده مستقبلاً بوتين أيضاً على التخطيط الاختياري بحيث توضح الدولة للقطاع الخاص ما يمكن فعله وفي أي اتجاه يمكن أن يسير في استثماراته . وضع التخطيط الاختياري أولويات ترتكز على تنشيط الانتاجية والاستثمار المكثف في البحث والتطوير والتدريب . كان التركيز أيضاً على الاستثمار في قطاعات البناء والتجهيز والتحديث بحيث ارتفعت انتاجية العامل فيها سنوياً بنسبة 3،9% . نجح التركيز بسبب توفير القروض والاعفاءات الضرائبية كما تسهيل عمليات المناقصات العامة . تأسست لجان للتحديث القطاعي في مختلف الصناعات، تتألف من قطاع الأعمال والعمال كما من الاختصاصيين، سمحت برفع انتاجية العامل الصناعي 7% سنوياً . توسع في ما بعد الاهتمام ليشمل القطاعات الأخرى .

منذ البداية وفي الدول المنتقلة من النظام المركزي القوي الى الديموقراطية الانتخابية، اتفق المسؤولون الجدد على الأولويات الاقتصادية وهي ضرب التضخم، ضبط عجز الموازنة، تحرير الأسعار، اعتماد سعر صرف واحد للنقد، تحرير التبادل النقدي، فتح الحدود التجارية أمام السلع والخدمات ورؤوس الأموال، إنشاء نظام مصرفي ومالي فاعل وشفاف، اعتماد قوانين حديثة لحقوق الملكية، ضبط الانفاق الجاري وسياسات الدعم كما الحفاظ على الخدمات الاجتماعية عبر نقل ما أمكن الى السوق أي إلى شركات التأمين . تحقق الاتفاق على الأولويات مع ترك التوقيت والتتابع لكل دولة تبعاً لوضعها ولمواردها الرئيسية المتوافرة .

في النظريات، كانت هنالك مدرستان أولاهما تطالب بتنفيذ ما اتفق عليه دفعة واحدة لإحداث التغيير القوي وتحقيق صدمة على المستويين الداخلي والدولي . ترتكز هذه النظريات على تكامل الاصلاحات واستحالة تجزئتها كما على الضرر الذي يلحقه التأخير من ناحية الفعالية وعدم الجدية والاستقرار . تشير هذه النظريات أيضاً الى ضرورة الاستفادة من الجو السياسي الجديد لتحقيق أهم الاصلاحات دفعة واحدة، إذ إن الأجواء تتغير بسرعة في معظم الأحيان . هنالك نظريات أخرى تشير الى العكس أي الى اعتماد تسلسل واضح في تطبيق الاصلاحات لأن النظام السياسي الجديد يحتاج الى وقت كي يقوي نفسه، ولأن تكلفة الأخطاء تكون عموماً كبيرة في وقت تتغير فيه طبيعة التوازنات الاقتصادية الداخلية . اعتمدت بولندا الطريقة الأولى وهي الدولة الأعلى نمواً اليوم في أوروبا كما اعتمدت المجر الطريقة الثانية وهي الاقتصاد الناجح بامتياز . لا يمكن الحسم نظرياً وحتى تطبيقياً، إذ تبقى الظروف المختلفة مهمة جداً .

هل هنالك ما يدعو للعجب بالنسبة لتطور الأوضاع في الدول العربية؟ هل تعاطي الشعب مع الأنظمة القائمة طبيعي؟ هل التمرد عجيب غريب؟ ولماذا وصلت الأوضاع السياسية الاجتماعية الى حدود الانفجار؟ ما حدث ويحدث في كل من ليبيا ومصر وتونس وسوريا واليمن وغيرها نتيجة طبيعية للحفاظ على الاستقرار بالقوة أي عبر منع الحريات وتقييد النشاط السياسي الفردي كما الجماعي والحزبي . تشير التجارب الى أن الأنظمة القسرية تتعرض دائماً لهزات قوية كبرى، إذ إن الحل يكون إما بالاستمرار بالظلم والظلام أو بكسر النظام كلياً وهذا ما أشارت اليه تجارب الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية . تضع هذه الأنظمة نفسها في موقع خطر يمنعها من التنفس والتأقلم . من الصعب على هذه الأنظمة تطبيق الاصلاحات ضمن النظام، وهذا ما تشير اليه تجربة مصر الحالية .

ما يحدث عربياً اليوم شبيه بما حدث للنظام المالي الدولي في العقد الأخير . قبل سنة ،2007 كانت الأمور ظاهرياً مستقرة والثقة كبيرة بل إن نمو الأسواق والاقتصادات العامة كان قوياً ومتواصلاً . كانت الأوضاع ظاهرياً جيدة معتمدة على تقاعس مؤسسات الرقابة، بحيث تركت تتطور من دون أي اجراء جدي حتى تم السقوط . هل الوضع العربي مختلف؟ هل مظاهر الاستقرار السابق مقبولة والتي طبقت قسراً على الشعوب؟ يقول الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو إن الازدهار ينبع من الحرية وتقلباتها وليس من السلم واستقراره الاصطناعي . يقول المؤسس الأمريكي توماس جيفرسون إن التعليم هو ركيزة الديمقراطية وبالتالي يجب تطويره وتحديثه . فما المطلوب عربياً في الدول التي تعرف الخضات اليوم كما في الدول التي من المتوقع أن تعرفها مستقبلاً؟ هنالك فرصة كبيرة للتغيير يجب الاستفادة منها .

أولاً: الاستقرار المفروض بالقوة مضر ولا يدوم . يجب أن يسمح للأنظمة السياسية بالتنفس بحيث تعالج المخاطر وتمنع بالتالي سقوطها . يجب أن تستطيع تطوير نفسها من دون أن تسقط . المطلوب أنظمة تخفف حجم الضرر على الشعوب، ولا تمنع وقوعه لأن هذا غير طبيعي .

ثانياً: يجب وضع قيود وأنظمة للاقتصادين الحقيقي والمالي، لكن ضمن شروط المنطق والليونة بحيث تفيد عملاء السوق وليس المتربصين بها أي من ينتظر سقوطها لجني الأرباح .

ثالثاً: من الأفضل تطبيق الاصلاحات بقوة ودفعة واحدة، إذ إن الفرصة الذهبية لن تتكرر بسرعة عربياً وبالتالي نقترح اعتماد النظام البولندي الذي يعطي اليوم نتائج مدهشة . فلنستفد عربياً من جو التغيير ولا نحاول إخفاء الأسباب المشروعة أو قمعها . تجاهل الواقع يؤدي مع الوقت الى تعزيز أوضاع المتطرفين، وهذا ما لا يرغب به أي عاقل في الداخل أو الخارج .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"